لعل أفضل طريقة لفهم نجاحات الرئيس دونالد ترامب في السياسة الخارجية، هي تخيله كوريث ورث ثروة عائلية، ويعتقد أنه يقوم بتنميتها، وهو عملياً خلاف ذلك. ولنأخذ مثلاً خلافه الأخير مع المكسيك، ولا يهم إن كنتَ تعتقد أن المكسيك ردّت على تهديد ترامب بفرض رسوم جمركية، بتنازلات جوهرية أو بمجرد تصريحات مكرّرة حول اتفاقات سابقة. فالأمر الذي لا جدال فيه هو أن وزير الخارجية المكسيكي سارع إلى زيارة واشنطن، من أجل تهدئة الرئيس وتجنب تهديده. ولم يقل المكسيكيون إن الرسوم الجمركية لا علاقة لها بالهجرة، أو إن المكسيك ليست مسؤولة عن غواتيمالا، أو إن هذه ليست الطريقة التي يعامل بها الأصدقاءُ أصدقاءَهم.. كما لم يقولوا للرئيس: اغرب عنا!
ومؤخراً قدّم ترامب قراءته الخاصة عندما قال: «إن الرسوم الجمركية شيءٌ جميل عندما تكون أنت هو الحصّالة.. عندما يكون لديك المال كله». وهو محق في ذلك. فنظراً لقوة الولايات المتحدة الاقتصادية، يقبل الحلفاء والمنافسون على حد سواء، وفي معظم الأحوال، مطالب ترامب. وهكذا أوقفت الدول الأوروبية الاتجار مع إيران، رغم أنها غير راضية عن العقوبات الأميركية. وزادت بلدان «الناتو» من إنفاقها العسكري، رغم أنها مستاءة من معاملته، وقدِم المسؤولون الصينيون إلى طاولة المفاوضات رغم رفضهم تهديداته.
والحقيقة أن الولايات المتحدة لم تعد تملك «المال كله»، كما كانت تفعل منذ نصف قرن، حيث سمحت لها هيمنتها بأن تضع القواعد وتكون الآمر الناهي. أما اليوم، فباتت تمثل نسبة أقل بكثير من الاقتصاد العالمي، لكن نفوذها لم يتقلص تبعاً لذلك، على الأقل حتى الآن. فالدولار الأميركي ما زال عملةَ العالم، ومنظمة التجارة العالمية ما زالت تشتغل وفق القواعد التي ساعدت الولايات المتحدة في وضعها، ومدير البنك الدولي أميركي دائماً، واليابان ما زالت تشتغل وفق الدستور الذي كتبته الولايات المتحدة والذي يمنع الجيش الياباني من التسلح للحرب، وحتى بعد أن طوّرت الصين ثم كوريا الشمالية أسلحةً نووية، امتنعت اليابان عن تطوير أسلحة مماثلة، مؤتمنةً المظلةَ النووية الأميركية على أمنها.
ولا يعني ذلك أن الولايات المتحدة كان لها دائماً كل ما تريده. كلا، لكن الرؤساء الأميركيون كانوا أذكياء بما يكفي، لئلا يلحّوا على أن يكون لهم ما يريدون في كل مرة. ونتيجة لذلك، كانت الدول عموماً تقبل القواعد والهياكل التي أبقت على زعامة الولايات المتحدة، وكانت تثق في أن الولايات المتحدة لن تستغل احترامها لها للضغط من أجل استخلاص «كل المال»، وكانت تعتقد أن الولايات المتحدة ستراعي المصالح القومية للدول الأخرى، وكذلك الاستقرار العالمي، ولن تستغل الآخرين عند كل منعطف.
الآن، يمارس ترامب الضغط، على نحو أخذ يحقق نتائج، أو على الأقل ما يبدو أنها نتائج. ولأنه لا يمكن بين ليلة وضحاها تغيير العديد من الهياكل التي تمكّن القوة الأميركية وتترك الحلفاء في وضع هش، يستطيع ترامب تصور نفسه مفاوضاً بارعاً. لكن بينما تجنح دول العالم للتهدئة ومحاولة كسب الوقت، تتعلم كذلك درساً مهماً. فاليابان بدأت تعيد التفكير في وضعها الأمني حتى لا تضطر للاعتماد على الولايات المتحدة. ومثلما لفت إلى ذلك زميلي فريد زكريا الأسبوع الماضي، فإن الرئيس الفرنسي ماكرون دعا إلى إنشاء «جيش أوروبي حقيقي» من شأنه تقليص أهمية «الناتو»، ومعه الولايات المتحدة.
هذه التغيرات ستستغرق وقتاً. وقدرتها على تحسين العالم ستكون محل جدال ونقاش، وشخصياً لدي شكوكي، لكن المؤكد هو أن كثيرين سيرحّبون برؤية اليوان الصيني يتحدى هيمنة الدولار الأميركي، كما يعتقدون بأن العالم سيغدو أكثر استقراراً إذا طوّرت مزيد من الدول ترساناتها النووية الخاصة بها.
لكن ما لن يكون قابلاً للنقاش هو تقليص الهيمنة الأميركية. ذلك أنه حينما تغيَّر هذه القواعد والهياكل، وهي ستتغير بالتأكيد، فلن تكون ثمة إمكانية للرجوع إلى الوراء. وإذا حاول رئيس أميركي وقتها ممارسة النفوذ، فإن الزعماء الأجانب قد يشعرون بالحرية ليقولوا له أن يغرب عنهم. وعندها قد يتذكر الأميركيون رئاسة ترامب.
*محلل سياسي أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»