تبدو التداعيات الناجمة عن الأعمال العدوانية واستهداف الملاحة في خليج عُمان هي الأكثر سخونة. وأصابع الاتهام دولياً تتوجه نحو إيران، لأنها ليست بعيدة جيوسياسياً عن كل ما جرى ويجري، وخاصة أن تهديداتها باستهداف الملاحة بالقرب من مضيق هرمز تكررت بالتزامن مع حظر صادراتها النفطية. لكن هذا ليس موضوعنا، بل سنتطرق هنا إلى عدوان إيراني من نوع آخر، هو السطو على أحد ملامح فن المعمار في الإمارات.
لا يمكن عزل السياق الثقافي والمعماري في أي منطقة عن البيئة والمناخ والذكاء الفطري للإنسان الذي تدفعه الحاجة للاختراع والابتكار. وهذا ما فعله الإنسان الإماراتي الذي واجه الطبيعة الحارة والرطوبة العالية، فابتكر البراجيل أو التكييف الطبيعي للهواء الحار والرطوبة العالية. وهي سمة معمارية أصيلة تمثل أحد مكونات هوية المعمار الإماراتي. ولا تزال أبراج تبريد الهواء في دبي والشارقة على وجه التحديد تمثل ملمحاً بارزاً لهوية العمارة في الإمارات. وكانت عمليات تحديث البناء قبل منتصف القرن الماضي تزحف بشكل واسع، ما حدا بشيوخ الإمارات إلى العمل للحفاظ على هذا الملمح المعماري الأصيل والنادر. فالجميع يعرف أن البراجيل جزء لا ينفصل عن البناء القديم في سواحل الإمارات.
قد تكون لهذه التكنولوجيا البسيطة أشكال بدائية أخرى موازية لها في مناطق حارة، لكن من المؤكد أن مدن سواحل الإمارات كانت سبّاقة في الاعتماد على هذا الملمح العمراني لتبريد الهواء بشكل طبيعي. حتى أصبح نمط البراجيل في البيوت القديمة ملتصقاً بخصوصية المعمار التراثي الإماراتي.
وإزاء هذه الحقيقة تقدمت الإمارات إلى منظمة «اليونسكو» لتسجيل البراجيل ضمن لائحة مكونات التراث الإماراتي، وفوجئنا بادعاء إيران أن هذا النمط من تقنية تبريد الهواء في المعمار القديم يخصها وحدها، متجاهلة أن ظروف المناخ في الإمارات تجعل هذه التقنية أكثر ارتباطاً بالمعمار الإماراتي!
ويبدو أن التوتر الإيراني لم يعد يقتصر على الجوانب السياسية وتصدير الخرافات ودعم الأذرع التخريبية، بل وصل إلى محاولة احتكار التراث، رغم أن الطرف الإيراني يستند في اعتراضه ضد تسجيل البراجيل كتراث إماراتي، لكونها مستخدمة أيضاً في مدينة يزد الإيرانية. لكن سكان الجنوب الإيراني لا ينتمون إلى القومية الفارسية، بل هم من العرب والأقليات غير الإيرانية، فلماذا يريد الفرس أن ينسبوا لأنفسهم ما ليس لهم؟! وبالنسبة لنا في الإمارات لدينا ما يثبت أن هذه التقنية في المعمار لها جذور محلية، وربما نقلها الآخرون بأشكال بدائية، لكن هذا لا يلغي أصالتها وارتباطها بالعمران التراثي الإماراتي.
لقد كانت لنا تجربة جيدة مع الأشقاء في سلطنة عُمان أثناء تسجيل فن العيالة ضمن لائحة التراث الإنساني، حيث تم الاتفاق على اعتباره فناً مشتركاً بين البلدين. لكن إيران تريد أن تنسب لنفسها جزئية فنية نادرة ونعتبرها في الإمارات أحد أبرز خصوصيات المعمار القديم في بلادنا، والتي فرضتها طبيعة المناخ، ودفعت الأجداد إلى ابتكار أسلوب في المعمار اقتضته الحاجة، ثم انتقل بعد ذلك إلى باقي المنطقة. ومن خلال العلاقات التجارية التي أنشأتها الإمارات عبر البحر مع الساحل الإيراني، وصلت هذه التقنية إلى بعض المدن الإيرانية، الأمر الذي دفع الإيرانيين لمحاولة تزييف هذه الحقيقة والادعاء بأن هذا الفن المعماري الإماراتي العربي فن فارسي، رغم ما في هذا الادعاء من ظلم وتجاهل كذلك لإبداعات وخصوصيات ثقافية ترتبط بالشعوب والأقليات غير الفارسية، وبالذات القومية العربية الأحوازية التي تعاني التمييز ومحاولة محو خصوصياتها. أما ادعاء إيران بأن الاسم العربي «البراجيل» مشتق أو مأخوذ من الاسم الفارسي له «بادگير»، فهذه حجة لا معنى لها، ففي المقابل نجد أن 90% من اللغة الفارسية وأسماء مواطني إيران ومدنها وحضارتها ترتبط باللغة العربية ومفرداتها.
إن الجهود المحمومة لإيران تتعلق أساساً بمحاولات إحلال الهوية الفارسية والتحرك بمنطق المحتل، وهي بذلك تعزز سلوكها الذي دفعها إلى احتلال الجزر الإماراتية الثلاث أبوموسى وطنب الصغرى وطنب الكبرى، إلى جانب سعيها لفرض الهوية الفارسية وإسكات القوميات غير الفارسية المطالِبة بالاستقلال الثقافي.

*كاتب إماراتي