في شهر مايو من عام 2005، وضمن فعاليات مؤتمر جميعة الصحة الدولية الثامن والخمسين، اتفق وزراء الصحة -من جميع دول العالم- بالإجماع على الالتزام بدعم نظم التبرع التطوعي بالدم في دولهم. ومن خلال هذا القرار، والذي حمل الرقم (WHA58.13)، تم اختيار الرابع عشر من شهر يونيو من كل عام، ليصبح اليوم العالمي للمتبرع بالدم (World Blood Donor Day). كما حث هذا القرار الأممي، جميع الدول الأعضاء، على تطبيق، ودعم، وتنظيم، برامج وطنية مستدامة للتبرع بالدم، تحت إشراف ومراقبة ومتابعة الجهات التنظيمية في الدول المعنية. ويتطلب دعم مثل هذه البرامج أن توفر الحكومات ونظم الرعاية الصحية المصادر المالية الكافية، لإنشاء وإدارة بنية تحتية للتبرع بالدم وإيصاله لمحتاجيه، وتوسيع نطاق ومدى هذه البنية بشكل يمكنها إيفاء متطلبات واحتياجات الجميع.
وفي أعقاب هذا القرار، قام الخبراء والمختصون في نقل الدم، وواضعو السياسات الحكومية، وممثلو الجهات الخيرية غير الحكومية، من 40 دولة، بصياغة وثيقة عام 2009 عرفت بإعلان ملبورن (Melbourne Declaration)، حددت هدف واضح لجميع دول العالم، دون استثناء، بضرورة استيفاء متطلباتهم واحتياجاتهم من الدم ومشتقاته، من خلال التبرع التطوعي، دون مقابل مادي، بحلول عام 2020.
وتأتي هذه القرارات والإعلانات على خلفية حقيقة أن نقل الدم ومشتقاته، ينجح في إنقاذ حياة الملايين من البشر سنويا. فالدم ومشتقاته مكونات أساسية في التدخلات الطبية الضرورية والحرجة، للنساء اللواتي يعانين من نزيف حاد أثناء الحمل والولادة، وللأطفال الذين يعانون من الأنيميا أو فقر الدم الحاد بسبب الملاريا أو سوء التغذية، وللمرضى المصابين باضطرابات واعتلالات في الدم وفي نخاع العظام، والمصابين باختلالات وراثية في هيموجلوبين الدم وجهاز المناعة، وضحايا العنف، والحوادث، والطوارئ، والكوارث، بالإضافة إلى المرضى الذي يخضعون لتدخلات طبية وجراحية خطيرة ومعقدة.
ورغم أن الحاجة للدم ومشتقاته، هي حاجة عمومية وعالمية، إلا أن هناك فجوة وهوة هائلة في إمكانية الحصول عليه بين دولة وأخرى، وحتى داخل مناطق وأقاليم الدولة الواحدة. فمن المفارقات الصحية الدولية الغريبة، أن معدلات أو نسب التبرع بالدم، تختلف وتتباين بشكل كبير بين شعوب الدول الفقيرة وشعوب الدول الغنية. فعلى الرغم من أن شعوب الدول الغنية تشكل 18 في المئة من سكان العالم، إلا أنها تتبرع بـ 50 في المئة من إجمالي التبرعات السنوية بالدم، وهو ما يتساوى مع حجم التبرعات من سكان الدول متوسطة الدخل والدول الفقيرة، الذين يشكلون 82 في المئة من سكان العالم. ففي المتوسط، يتبرع أفراد مجتمعات الدول الغنية بالدم، بمعدلات تزيد على تسعة أضعاف معدلات التبرع في الدول منخفضة الدخل. وفي العديد من دول العالم، وبالإضافة إلى تحدي الحصول على كميات كافية من الدم، تواجه نظم الرعاية الصحية في تلك الدول تحديا إضافيا، يتمثل في توفير الدم ومشتقاته بشكل آمن وسليم، وبجودة عالية.
وجدير بالذكر أن النقص العالمي المزمن في الكم المتوفر من الدم البشري، دفع الأطباء والعلماء إلى البحث عن بدائل كيماوية أخرى، قادرة على تنفيذ وظيفة الدم الأساسية في نقل الأوكسجين للخلايا والأنسجة، على الأقل كإجراء مؤقت في وقت الطوارئ والحوادث، وهو ما يعرف ببدائل الدم أو الدم الاصطناعي (Artificial Blood). ولكن للأسف ما زال هذا البديل غير متوفر، على رغم ما يستثمر في هذا المجال من أبحاث ودراسات.
وحتى إذا ما توفر مثل هذا البديل في المستقبل القريب أو البعيد، فلا يتوقع أن يستخدم على نطاق واسع، بالنظر إلى تكلفته الباهظة، مقارنة بتكلفة جمع الدم من خلال حملات التبرع، أو حتى شرائه ودفع ثمنه نقدا. ولذا، ربما سيستخدم الدم المنتج بهذا الأسلوب في حالات النقص الشديد في مخزونات بنوك الدم، أو في الغالب لسد احتياجات الدم للأشخاص ذوي الفصائل النادرة، والذين غالباً ما ينتمون لفئات عرقية قليلة العدد، ويصعب حتى في ظل الظروف الطبيعية الحصول على فصيلة دم متطابقة مع فصيلتهم.
وتظل الحقيقة الثابتة والمؤكدة في مجال نقل الدم ومشتقاته، أن الملايين من البشر يدينون حاليا بحياتهم لأُناس لا يعرفونهم، ولم يلتقوا بهم أبدا، ولكن كانت دماء أولئك الغرباء هي السبيل الوحيد لإنقاذ حياتهم في وقت ما. وسيظل دائما هناك الملايين، الذين يحتاجون حاليا، أو سيحتاجون في المستقبل، لنقل دم، إذا ما كان مقدر لهم أن يبقوا على قيد الحياة.
*كاتب متخصص في الشؤون العلمية