لم تكن إسرائيل، منذ إعلان قيامها عام 1948، في وضع إقليمي ودولي أفضل مما هي فيه الآن. فقد أضعفت الأزمات والحروب الداخلية المتواصلة منذ بداية العقد الجاري دولاً عربية عدة، وأدى ازدياد التهديد الإيراني للمصالح العربية إلى معادلات جديدة خلطت الأوراق في المنطقة.
لكن المفارقة أن هذا الوضع، الذي لم يتوقعه أكثر القادة الإسرائيليين تفاؤلاً قبل سنوات قليلة، لم يحل دون نشوب أزمة داخلية كبيرة نتيجة فشل تشكيل حكومة جديدة عقب انتخابات الكنيست التي أُجريت في مارس الماضي، والاضطرار إلى إجراء انتخابات أخرى في سبتمبر القادم. وهذه المرة الأولى التي يذهب فيها الإسرائيليون إلى الانتخابات مرتين خلال ستة أشهر.
وتثير هذه الأزمة أسئلة عدة حول تداعياتها على مستقبل المنطقة. وينبغي أن ينال اثنان من هذه الأسئلة اهتماماً عربياً خاصاً. أولهما عن احتمالات تأثير الأزمة الإسرائيلية في خطة السلام الأميركية الجديدة المعروفة باسم «صفقة القرن». والأرجح، في ضوء المعطيات الراهنة، أَّلا تُعطل هذه الأزمة عمل صانعي الخطة، والجدول الزمني الذي وضعوه، رغم أننا لا نعرف إلا المرحلة الأولى فيه، وهي الورشة الاقتصادية المقرر عقدها في المنامة بعد نحو أسبوعين.
لكن الأزمة الإسرائيلية تضيف مشكلة جديدة إلى مشاكل واجهت هذه الخطة، ومازالت، لأن منهجها الجديد يضع السلطة الفلسطينية في موقف بالغ الصعوبة، ويفرض عليها أن ترفض التفاعل معها حتى بطريقة الاشتباك الإيجابي، والسعي إلى إجراء تعديلات فيها. ولذا، راهن صانعو الخطة منذ البداية على إسرائيل، وتحديداً على نتنياهو الذي دعمته إدارة ترامب علناً في الانتخابات الأخيرة، للمرة الأولى في تاريخ العلاقات بين الطرفين.
ورغم أن نتنياهو يظل رئيساً للحكومة حتى إجراء الانتخابات الجديدة، فإن صلاحيات أية حكومة تصريف أعمال محدودة، ولا تتيح اتخاذ قرارات في قضايا كبرى. وربما تتفاقم المشكلة المترتبة على الأزمة الإسرائيلية إذا لم تسفر الانتخابات الجديدة عن نتيجة تتيح تشكيل حكومة مستقرة برئاسة نتنياهو.
ويقودنا هذا إلى السؤال الثاني، وهو: هل يؤدي فشل نتنياهو في تشكيل حكومة إلى إضعاف ثقة قطاع من الناخبين فيه، وفى حزبه «ليكود» وقوى اليمين عموماً، بعد أن ظهر الأثر الخطير للانقسام في صفوفها؟
ليس سهلا توقع إلى أي مدى يمكن أن تشهد الانتخابات المقبلة تصويتاً عقابياً ضد قوى اليمين. لكن هذا احتمال وارد، مثله في ذلك مثل أي احتمال آخر إلى أن تبدأ اتجاهات الناخبين في الظهور، بحيث يمكن قياسها منهجياً.
لكن أهمية احتمال فقدان قوى اليمين قطاعاً من ناخبيها يعود إلى أنها حصلت على أغلبية محدودة أتاحت لرئيس حزب صغير يملك خمسة مقاعد فقط، هو أفيجدور ليبرمان (رئيس حزب «إسرائيل بيتنا»)، إفشالَ محاولات نتنياهو تشكيلَ حكومة. ويعني هذا أن تحولاً صغيراً في اتجاهات الناخبين يمكن أن يُغيِّر الخريطة السياسية ومعادلاتها.
ورغم أن الحزب الجديد الذي يقود المعارضة ضد قوى اليمين، وهو «حزب أزرق أبيض»، يقف في مساحة وسطية لا تبعده كثيراً عن هذه القوى، فليس ممكناً أن يقبل التحالف مع «ليكود» من دون اتفاق على برنامج حكومي مختلف، وعلى أن يكون لزعيمه الجنرال «بيني غانيس» مركز مساوٍ لنتنياهو. وفي هذه الحال، ربما تعود إسرائيل إلى صيغة «حكومة الرأسين»، على غرار الحكومة التي تشكلت في منتصف الثمانينيات، وتناوب على رئاستها شمعون بيريز وإسحاق شامير. وربما يصبح غانتس في مركز أقوى يمكِّنه من أن يكون رئيسَ الحكومة في فترتها الأولى إذا حصل حزبه على مقعدين إضافيين أو أكثر، لأن «ليكود» تفوق عليه في الانتخابات الأخيرة بفرق مقعد واحد (36 مقابل 35). وفي هذه الحال، يمكن أن تدخل إسرائيلُ في مرحلةً جديدةً على صعيد سياستها الخارجية عموماً، وطريقة تعاملها مع المستجدات بما في ذلك «صفقة القرن».
وفي كل الأحوال، بات متوقعاً أن تجري مياه جديدة في نهر السياسة الإسرائيلية، على نحو يؤدي إلى تغيير ما فيها قبل نهاية العام الجاري، بعد أن ظلت راكدةً قرابة العقدين، منذ أن انفرد اليمين بالحكم عام 2001، واحتكر نتنياهو رئاسة الحكومة لعشر سنوات متوالية.
وهذا ما يتعين علينا أن ندرسه جيداً، لكي نكون مستعدين للتعامل مع أي مستجدات تأتي بها الانتخابات المقبلة، لكي لا تفاجئنا حين تحدث.