في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، علمني «جاك أوديل»، الذي كان مستشاراً لفترة طويلة في البداية لـ«مارتين لوثر كينج» ثم لـ«جيسي جاكسون»، درساً لن أنساه أبداً. وخلاصة الدرس أنه عندما تُناضل ضد خصوم لنيل حقوقك، لا تدع العقبات تُدمّرك، ولا تبالغ في الثقة بعد إحراز تقدم! والذي دفعه لإسداء هذه النصيحة كانت مجموعة من الأحداث، التي وقعت في بداية ثمانينيات القرن الماضي.
فخلال فترة الإعداد لفاعلية «مسيرة واشنطن» إحياءً للذكرى العشرين لاغتيال «لوثر كينج» في عام 1963، وُجّهت دعوى لمشاركة الأميركيين العرب من خلال منظمتنا «لجنة مكافحة التمييز العربية الأميركية»، وطُلب من رئيسنا، السيناتور السابق «جيمس أبورزق» المشاركة في لجنة التوجيه الوطنية والإدلاء بخطاب في الفاعلية، كما طُلبت منه المشاركة في «مجلس التخطيط الوطني». لكن عندما علمت منظمات يهودية أميركية كبرى بذلك احتجت وهددت بسحب تأييدها ومشاركتها في الفاعلية. واعترضت على مشاركتنا وعلى إدلاء أبورزق بخطاب في الفاعلية.
وبعد أسابيع من التراشقات حامية الوطيس، انتصرنا، وشارك الأميركيون العرب في المسيرة، وأسهم أبورزق في لجنة التوجيه وأدلى بخطابه. وفي نهاية العام نفسه، أعلن «جيسي جاكسون» ترشحه لمنصب رئيس الولايات المتحدة، وعينني نائباً لمدير حملته الانتخابية. وفي بداية الحملة، طلب مجموعة من قادة اليهود الأميركيين الليبراليين لقاء «جاكسون» للإعراب عن مخاوفهم من الانفتاح الكبير على الأميركيين العرب وحقيقة أنه عينني في الحملة. وعُقد اللقاء، وأثاروا اعتراضاتهم التي رفضها «جاكسون» بدوره.
وأثناء تلك التجربة القاسية، سعيت للحصول على دعم «جاك أوديل» وطلبت منه النصيحة حول أفضل طريقة لاجتياز هذه العواصف. فعندما علمت للمرة الأولى باعتراضاتهم على مشاركتي في الحملة الانتخابية، شعرت بالإحباط الشديد من اضطراري لخوض معركة كتلك التي كنّا قد خضناها، خلال مشاركتنا في مسيرة الذكرى العشرين لـ«لوثر كينج»، وأخبرت كلا من «جاكسون» و«أوديل» أنني أشعر بأن عليّ المغادرة. وكان ردّهم: «إذا غادرت، فقد أعطيت خصومك ما أرادوا بالتحديد، وأكثر ما يخشونه هو أن تتمسك وتواجه». وبعد تأكيد «جاكسون» دوري في الحملة، أخبرت «جاك أوديل» بأن لدي شعور طيب إزاء الانتصار. فقدم لي نصيحة أخرى.. أو بالأحرى تحذير، قائلاً: عندما تعتقد أنك انتصرت، فلا تُولّي ظهرك، لأن خصومك لن يستسلموا، وسيلاحقونك مرة أخرى! وقد حملت تلك الكلمات الحكيمة معي طوال مسيرة عملي السياسي، وساعدتني على تجاوز كثير من العواصف السياسية. وقد تذكرت دروس «أوديل» بعدما علمت بشأن التطورات التي حدثت في «مؤتمر الحزب الديمقراطي» بولاية كاليفورنيا الأسبوع الماضي.
فأثناء الفترة التحضيرية للمؤتمر، أعدت مجموعة من أعضاء الحزب «الديمقراطي» من الأميركيين العرب واليهود التقدميين خمسة قرارات، حول جوانب مختلفة من حقوق الفلسطينيين والسبيل للمضي قدماً على طريق السلام الإسرائيلي الفلسطيني. وفي ظل التأييد الذي تُظهره استطلاعات الرأي حول تبدل مواقف المنتمين للحزب «الديمقراطي» بشأن القضية الفلسطينية، تضمنت القرارات: إدانة الإجراءات المتخذة من قبل إدارة ترامب، لاسيما قطع المساعدات ونقل السفارة الأميركية إلى القدس والتغاضي عن التوسع الاستيطاني، والدعوة لتأييد حق العودة الفلسطيني، وإدانة قانون الدولة القومية اليهودية في إسرائيل، وإدانة المساواة بين انتقاد إسرائيل ومعاداة السامية، والمطالبة بإنهاء الحصار على قطاع غزة.
وبعد احتجاجات من أعضاء منظمات يهودية أميركية كبرى، رضخت قيادة الحزب «الديمقراطي» في كاليفورنيا أمام حدة الانتقاد وأعادت صياغة القرارات وخففت من نبرتها، ورفضت السماح بإجراء تصويت على الصيغة الأصلية للقرارات فيما يشكل انتهاكاً لقواعد الحزب.
وبالطبع، زعمت الصحافة اليهودية أن «الحزب الديمقراطي يرفض القرارات المنتقدة لإسرائيل». ومن ثم شعر أعضاء الحزب من الأميركيين العرب والتقدميين، الذين صاغوا القرارات الأصلية، بالإحباط بسبب تجاهلهم من قبل قيادة الحزب. واعتبر البعض أنهم خسروا المبادرة بأسرها. لكن إذا ما نظرنا للمسألة عن قرب، تتضح صورة مختلفة. فمن ناحية، الحقيقة هي أن المنظمات المؤيدة لإسرائيل وقادة الحزب اضطروا إلى اللجوء لأساليب ملتوية، من أجل تحييد القرارات الأصلية وخافوا من الخسارة إذا ما سمحوا بالتصويت عليها من قبل الأعضاء، فأظهروا بذلك ضعف موقفهم. وفي الوقت ذاته، على رغم من إعادة صياغة القرارات، وانطوائها على صيغة مؤيدة لإسرائيل، إلا أن من صاغوها شعروا بضرورة الحفاظ على أجزاء رئيسة، من تلك التي صاغها التقدميون والأميركيون العرب. وعلى سبيل المثال، تنتقد الصياغة الجديدة للقرارات نقل السفارة «السابق لأوانه» إلى القدس، وتدعو إلى استئناف المساعدات الأميركية للأونروا من أجل «الفلسطينيين الذين أصبحوا لاجئين بسبب الاحتلال الإسرائيلي»، وتشجب المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية في الضفة الغربية والقدس الشرقية، وتؤيد حقوق الإنسان والمساواة والعدالة في إسرائيل وفلسطين، وتطالب بإنهاء الحصار المفروض على قطاع غزة.
وقد سرّني أن أعلم أن النشطاء الأميركيين العرب والتقدميين الذين قادوا تلك المبادرة، رغم إحباطهم، إلا أنهم مصممون على مواصلة نضالهم. وهم محقون في عدم التخلي عن مساعيهم، فقد أحرزوا تقدماً حقيقياً، وفرضوا نقاشاً حول قضايا محورية مثل العدالة والسلام، وأجبروا القيادة على تضمين صياغتهم في النص الجديد للقرارات.
*رئيس المعهد العربي الأميركي- واشنطن