لا خلاف على أن التسامح هو قيمة إنسانية عظيمة لا غنى عنها لبناء مجتمعات متماسكة ومستقرَّة وناهضة، لأن نقيض التسامح هو التعصُّب والكراهية والعنف، وهي قيم كفيلة بتدمير أي مجتمع تتغلغل فيه. لكن قيمة التسامح تحتاج دوماً إلى مَن يعمل على ترسيخها بصفتها ثقافة مجتمعية، ونمط حياة بين الناس بمختلف فئاتهم وتكويناتهم، وترسيخ جذورها في بنية المجتمع وأنماط العلاقات بين أبنائه، وبينهم وبين غيرهم من المجتمعات والشعوب، ولاسيما في المراحل التاريخية التي تتنامى فيها نزعات الكراهية والتعصب الأعمى، أو يتزايد فيها نشاط دعاة التطرف والصدام الحضاري، فدائماً ما يكون هناك أناس يسخِّرهم الله لخدمة بني البشر، ولنشر العدل والتسامح والقيم الخيِّرة من أجل بقاء البشرية ورفاهيتها. وقد مثل المغفور له، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، أحد أهم النماذج التي تبنَّت نهج التسامح، وعملت على ترسيخه قولاً وفعلاً، حتى أصبح، رحمه الله، رمزاً للتسامح والسلام والحوار على مختلف المستويات الوطنية والإقليمية والعالمية.
لقد شكل التسامح إحدى الركائز المحورية في فكر الشيخ زايد، رحمه الله، وفلسفته العامة في الحياة والحكم، واستندت رؤيته لهذه القيمة الإنسانية السامية وأهميتها إلى مجموعة من الأسس والأمور المهمَّة، أولها أن ترسيخ القيم الإنسانية السامية، وفي مقدمتها التسامح، في نفوس أفراد المجتمع هو جزء أصيل من عملية بناء الإنسان الإماراتي، فالشيخ زايد، رحمه الله، كان يضع عملية بناء العنصر البشري وتنميته في قمة أولوياته، بصفته أداة تحقيق التنمية الشاملة وهدفها في الآن نفسه، وهذا البناء لم يكن يقتصر في فكر الشيخ زايد على تطوير قدرات الإنسان وتنمية مهاراته الأساسية فقط، ولكن أيضاً، وربما الأهم، كان يشمل تنمية هذا الإنسان قِيَمياً ومعنوياً، من خلال زرع القيم الإنسانية السامية والخيِّرة فيه، وعلى رأسها قيمة التسامح، ومن هنا كان حرصه الثابت والدائم، رحمه الله، على حثِّ مواطنيه، وكل من يلتقيهم، على التمسك بقيمة التسامح، والتحلِّي بها في سلوكهم ومعاملاتهم مع بعضهم بعضاً، حتى تكون عملية بناء الإنسان مكتملة بشقيها القِيَمي والتأهيلي.
التسامح والتماسك المجتمعي
وثانيها إدراك الشيخ زايد، رحمه الله، أهمية التسامح في تعزيز التماسك المجتمعي، الذي هو أساس الاستقرار والتقدم لأي مجتمع، فالمجتمع المتسامح هو مجتمع متضامن ومتعاون مع بعضه بعضاً، وتسود بين أفراده روح الألفة والمودة والإيثار، وهو ما يجعله أكثر تماسكاً ووحدةً في مواجهة التحديات التي يمكن أن تعترض سبيله. ولكن إذا غاب التسامح، وسادت قيم التعصُّب والكراهية بين أفراد المجتمع وفئاته المختلفة، فإن مصير هذا المجتمع غالباً ما سيؤول إلى التشرذم والانقسام، وربما الانهيار، حيث يُنقَل عنه، رحمه الله، قوله: «لولا التسامح ما أصبح صديق مع صديق، ولا شقيق مع شقيق، التسامح ميزة». وقد ذهب الشيخ زايد، في رؤيته الحكيمة للتسامح، إلى ما هو أعمق بكثير عندما رأى أن تعزيز قيمة التسامح هو مسؤولية المجتمع كله، الذي عليه أن يتسامح مع المخطئ من أبنائه، بصفته فرداً من أفراده، ومعاونة هذا المخطئ على العودة إلى الطريق الصواب، ففي بعض أقواله الخالدة، التي دأبنا في مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية على عرضها أمام الجمهور قبل بداية أي محاضرة أو فعَّالية علمية ينظمها المركز في عام التسامح، يؤكد الشيخ زايد، رحمه الله، أن المخطئ في النهاية هو أخ لمن أخطأ في حقه، وأن واجب الآخرين، والمجتمع كله، التسامح مع هذا المخطئ، ومساعدته على تجاوز خطئه، والعودة إلى الطريق الصحيح، قائلاً إن الله عز وجل يسامح المخطئ، فكيف بنا نحن البشر؟ فهذه الكلمات الصادقة النابعة من القلب تعكس فلسفة إنسانية عميقة تؤمن بأن التسامح بين أفراد المجتمع هو أساس الأخوَّة والترابط فيما بينهم، والعنصر الأهم لتحقيق تماسكهم ووحدتهم.
«عامل توحيد»
والأمر الثالث الذي ميَّز فكر الشيخ زايد، رحمه الله، هو نظرته إلى التسامح بصفته عامل توحيد، لأنه يجعل جميع أفراد المجتمع مترابطين ومتحابين فيما بينهم، وهو ما يجعلهم أكثر ميلاً إلى الاتحاد، على عكس الدول والمجتمعات التي تعاني من انتشار قيم الكراهية والتعصب، والتي تكون أكثر ميلاً إلى التفتُّت. ومن هنا كانت ثقافة التسامح جزءاً لا يتجزأ من الفكر الوحدوي للشيخ زايد، رحمه الله، وكانت أحد العوامل المهمَّة التي أسهمت في إنجاز حلم تأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة في عام 1971. ومن المواقف التي تعكس هذه الحقيقة المرونة التي أبداها الشيخ زايد، رحمه الله، في المفاوضات بشأن تسوية بعض الخلافات بين أبوظبي ودبي قبل الاتحاد بينهما، حيث قال، رحمه الله، عنها: «إننا نحرص على المودة والأخوَّة بيننا، وإذا أخذتَ شيئاً من يدك اليمنى لتضعه في يدك اليسرى، فهل يمكن أن يقال إنك فقدت شيئاً؟ نحن جميعاً إخوة في جسد واحد»، فهذا الموقف وغيره الكثير من المواقف تعكس حقيقة أن تجربة الاتحاد الإماراتية أسِّست على نهج التسامح والأخوَّة والحوار، وهو ما ضمن لها النجاح والتميز حتى غدت واحدة من أقوى التجارب الوحدوية في منطقتنا والعالم.
الأمر الرابع أن التسامح في فكر الشيخ زايد، رحمه الله، هو قيمة إنسانية يحث عليها الدين الحنيف، حيث كان ينظر بفطرته الصافية النقية إلى الدين بصفته دعوة إلى الحوار والتعايش والتسامح بين البشر، وكان يدعو باستمرار إلى نشر هذه القيم الإنسانية بصفتها من جوهر الدين، رافضاً كل دعاوى التعصُّب والكراهية والانغلاق التي تروِّج لها بعض الجماعات تحت ستار الدين، والدين منها بَرَاء. وفي هذا السياق قال، رحمه الله،: «إن الواجب يحتِّم على أهل العلم أن يبينوا للناس جوهر الإسلام ورسالته العظيمة بأسلوب يليق بسماحة الدين الحنيف، الذي يحث على الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، حتى يستجيب الناس، ويواجهوا الإرهاب باسم الدين، والقتل باسم الدين». وهذه الرؤية تعكس إلى مدى بعيد حكمة القائد المؤسس، رحمه الله، وعمق فلسفته وإدراكه حقائق الأمور، لأن آفة أمتنا العربية والإسلامية، بل العالم كله، تكمن في أولئك الذين يؤوِّلون النصوص الدينية، ويستخدمونها في نشر قيم التطرف والعنف والإرهاب والكراهية، في حين أن جوهر كل الأديان هو نشر التسامح والمحبة بين البشر.
تعزيز الحريات الدينية
وقد تجسدت هذه الرؤية الحكيمة للشيخ زايد واضحة جليَّة في العديد من الممارسات والمواقف والسياسات التي رسَّخت نهج التسامح الإماراتي، بصفته نموذجاً عالمياً رائداً، ولاسيما في مجال الحريات الدينية، حيث كان يستقبل ممثلي الأديان والطوائف المختلفة، ويؤكد أهمية الحوار بين الأديان والثقافات المختلفة، كما حرص على توفير الأجواء التي تسمح لأتباع الديانات المختلفة على أرض دولة الإمارات العربية المتحدة بأداء شعائرهم الدينية بحرية ومن دون خوف. ومن المؤشرات المهمَّة في هذا السياق توجيهاته، في سبعينيات القرن الماضي، ببناء ثلاث كنائس لتخدم الطوائف المسيحية في مدينة أبوظبي، وموافقته في عام 1999 على طلب الكنيسة المصرية تخصيص قطعة أرض لبناء الكاتدرائية القبطية الأرثوذكسية المصرية، وتأكيداته المستمرة أن هدف التنوع في العقائد والأديان هو التعارف والتعاون فيما بينها. وكان لهذا النهج الحكيم دوره الذي لا ينكره أحد في تحقيق التعايش السلمي بين أبناء أكثر من 200 جنسية يقيمون على أرض دولة الإمارات العربية المتحدة في وئام وتسامح.
الأمر الخامس والأخير، الذي يمكن الإشارة إليه في هذا المقال، هو أن التسامح والحوار هما أساس التعاون بين الأمم، وليس داخل المجتمع الواحد فقط، فكلما سادت قيم التسامح والتعاون والحوار بين الأمم والمجتمعات، عمَّ السلام والأمن والاستقرار في العالم. ومن هنا كان نهج الشيخ زايد هو نشر ثقافة التسامح بين البشر من دون تمييز، وانعكس ذلك بوضوح في سياسة الانفتاح والتسامح العالمية التي ميزت السياسة الخارجية الإماراتية، فلم يُعرَف عن دولة الإمارات العربية المتحدة قط، الانحياز إلى أي تعصب أو صراع، بل كانت دائماً، ولا تزال، تغلِّب لغة الحوار والتسامح حتى مع المسيئين إليها، وكانت تقدم يد العون والمساعدة إلى أي محتاج في أي مكان في العالم، بصرف النظر عن جنسه، أو عرقه، أو ثقافته، أو ديانته، أو لونه، حتى غدت عنواناً للخير والعون في كل أصقاع العالم.
لقد رسَّخ المغفور له، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، نموذجاً إماراتياً رائداً للتسامح ضَمِن للمجتمع الإماراتي الحفاظ على تماسكه وقوته برغم التحديات التي واجهها، وجعل من دولة الإمارات العربية المتحدة منارة للتسامح والمحبة والعيش المشترك، تحاول كثير من دول العالم الاقتداء بنهجها، ولاسيما في هذا العصر الذي تكافح فيه كثير من هذه الدول للحفاظ على استقرارها وأمنها وسط موجات الكراهية والتعصُّب المتنامية في أرجاء مختلفة من المنطقة والعالم.
هذا النهج الإماراتي في التسامح، الذي أرساه الشيخ زايد، رحمه الله، شكَّل النبراس الذي سارت على هديه القيادة الإماراتية الحالية، ممثلةً بسيدي صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، وسيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، وسيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، حفظه الله، والتي ركزت كل جهودها على تعزيز قيم التسامح والتعايش والوسطية، من خلال الكثير من المبادرات والتحركات الرائدة، التي سعت إلى ترسيخ نموذج التسامح الإماراتي بصفته نموذجاً عالمياً يشار إليه بالبنان.
«وثيقة الأخوَّة الإنسانية»
وتمثل «وثيقة الأخوَّة الإنسانية»، التي تم توقيعها على أرض دولة الإمارات العربية المتحدة مطلع العام الحالي خلال استضافتها قداسة البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، وفضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، أكبر دليل على دعم دولة الإمارات العربية المتحدة لنشر نهج التسامح في العالم كله. أما على المستوى الداخلي، فقد حرصت القيادة الإماراتية الرشيدة، حفظها الله، على تحويل فكر زايد ونهجه في التسامح إلى إطار مؤسسي وقانوني حامٍ لنهج التسامح الإماراتي، على النحو الذي تجسد في إصدار قانون مكافحة التمييز والكراهية في عام 2015، وفي القرارات الخاصة بإنشاء وزارة للتسامح، ووضع برنامج وطني للتسامح، وإعلان عام 2019 عاماً للتسامح، وغيرها من المبادرات التي سبق أن عرَضْتُ لها في مقالي بهذه الصحيفة الغرَّاء في مارس الماضي.
سيظل نهج الشيخ زايد، رحمه الله، في ترسيخ ثقافة التسامح يمثل إرثاً ملهِماً للأجيال المختلفة، ليس داخل دولة الإمارات العربية المتحدة فقط، وإنما على المستويين الإقليمي والعالمي أيضاً، لأن هذا النهج تجاوز بتأثيره الإطار المحلي إلى العالم كله، ليرسخ مكانة هذا القائد الاستثنائي بصفته رمزاً للتسامح والسلام في المنطقة والعالم.