قام خادم الحرمين الشريفين، جلالة الملك سلمان بن عبد العزيز، وحكومته بمبادرة تاريخية، وذلك بعقد ثلاث قمم في وقت وجيز للغاية، لبعث رسالة سريعة لمن يريد العبث بأمن الأمة العربية، ويراهن على عدم اتخاذ موقف موحّد ضد العدوان الغاشم على الأراضي المقدسة، وضد استهداف المصالح التجارية والاقتصادية وسيادة دول المنطقة، وهي خطوة تنم عن بعد نظر وإقرار غير مكتوب بزعامة المملكة للأمتين العربية والإسلامية، والتي يجب أن تتبعها خطوات عملية تضع النقاط على الحروف في ظل ما يحاك ضد الأمة العربية من المحيط إلى الخليج. وهناك التحديات الراهنة والمستقبلية التي لن تفرّق بين المسميّات والحدود المرسومة، ناهيك عن أن الشارع العربي لا يرى جدوى من القمم والخطب العصماء وكرامة أمته تُنتهك نهاراً جهاراً في كل شبر من أراضي الأمة بطريقة أو بأخرى، ويتساءل: متى ستنهض الأمة ويزول الهوان؟!
فالقرار التاريخي الأهم الذي تنتظره الشعوب العربية هو قرار إعلان القيادات العربية عن تشكيل الجيش العربي الموحّد بقيادة مركزية، وإطلاق استراتيجية الأمن والدفاع العربي الموحّدة، وخطط قابلة للتنفيذ، ومشاريع تكاملية تجعل الأمة العربية قوة اقتصادية يُشار إليها بالبنان.. ولِمَ لا وبينها أفضل مدن العالم وأكثرها حداثة واحترافية في الإدارة العامة وتسيير الأعمال.
جميع الشعوب العربية تدرك أن عدم الوحدة العربية الشاملة هو عبثٌ بمصيرهم، وخطوة لا تعكس تطلعاتهم لمواجهة الواقع وما هو قادم، وهم يعلمون أن أمتهم مستهدفة والقرار السياسي العربي مستهدف، ما يبدد أحلامهم وطموحاتهم بغدٍ أفضل، ولا حل ولا خيار متاح في واقع الأمر غير الوحدة.
فالأمة العربية محاصرة من جميع الجوانب، ونجح من نجح في وضع الفيروسات التي ستقضي عليها ذاتياً، وكل المؤشرات تقود لمستقبل باهت، وكل مكتسبات اليوم قد تصبح حطاماً بين ليلة وضحاها، والمؤامرة على الأمة قائمة من الداخل، وليست من الخارج كما يُشاع دائماً، فالخارج قام بدوره ورحل ليكمل غيره تدمير الأمة، وقد سئم سكان المنطقة من الإدانات والشجب والمكابرة والمغامرات غير المحسوبة للتغريد خارج حلم الوحدة العربية! فهل سينقذ الأمة مذهب أو ولاءات لأشخاص ومؤسسات، بينما الصف مشروخ والتهديد ليس له رادع؟
فالحصار والخناق قد اشتد على الأمة وهي لا تتحكم بمنظومة المال والاقتصاد العالمي أوالسلاح والمعرفة والتكنولوجيا التي تجعل العرب سادة العالم. وإذا كنا نتحدث عن المصالح السياسية للأمم فهي ساحة لا تخضع للقيم والأخلاق والمبادئ الإنسانية العليا، بل لمبدأ الغاية تبرر الوسيلة، وهو مبدأ ممارس من قبل كل الإمبراطوريات على مرّ التاريخ ولن يوقفه أو يردعه مؤتمر، ويبرز هنا غياب أو ضعف دور تقديرات مراكز دعم القرار السياسي العربي في رسم الصورة الحقيقية لسيناريو ما يحدث وما هو قادم، والذي لا توجد خطوة تصحيحية واحترازية له غير الوحدة العربية، ولتشارك فيها الدول الراعية وستنضم لها لاحقاً باقي الدول مجبرة بعد أن تجدّ نفسها وحيدة في مرمى العدو، وبعد أن تضيع رهاناتها على حلفائها وفق قانون لعبة الكراسي في المصالح المتبادلة للأمم.
فسقوط دولة عربية هو سقوط للأمة العربية ككل، في عصر لم تعد للأبعاد الجغرافية فيه دورٌ رئيسيّ في اتخاذ القرار السياسي، والتهديد المباشر على أية دولة عربية يبدأ من حدود أبعد دولة عربية لها، ولن تُفلح دبلوماسية تسجيل المواقف في تقويض ممارسات إيران العنجهية، وفي عالم الأولوية الاستراتيجية لكل دولة عظمى، فكل الدول الأخرى صديقة وعدوة حسب ما تقتضيه المصلحة العليا لها، وصراع الانتخابات الرئاسية والوضع الاقتصادي العالمي والمحلي، وما ترغب في تحقيقه من توسّع وحماية لمصالحها في العالم، وكل الضغوط التي تمارسها هي جزء من لعبة الشد واللين لتحقيق الهدف. ولن تنفع أية دولة عربية اتفاقية ثنائية أو ثلاثية عندما تكون مصالح الحليف على المحّك. ويبدو أن هناك من يريد أن يسقطَ حجر الدومينو الأول ليسقط آخر حجر في ظل عمل شديد الإتقان والتعقيد لتأكيد تقسيم العالم الإسلامي إلى عالمين لا يتقابلان أبداً، وتأصيل طرح استحالة التعايش السلمي دون وساطة وحماية، ولهذا نقدر دور وأهمية الدبلوماسية السعودية، بجانب الأطراف المؤثرة في الشرق الأوسط لتحقيق سلام مشروط على أقل تقدير، وانتشال الأمة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
*كاتب وباحث إماراتي متخصص في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات.