أصبحت «صفقة القرن» الغامضة حديث الساعة في المنطقة، بينما يستمر العقل السياسي العربي في العيش على اجترار أوهام وشعارات تحد من التعامل بواقعية مع الأحداث والمستجدات. فما كان متاحاً في الماضي، وقابلاً للتداول في الخطاب السياسي الرسمي والتطلعات العامة، لم يعد يتناسب مع تحولات كان العرب أنفسهم سبباً في تهيئة أجواء ترسيخها، نتيجة لعدم اعتماد نهج واقعي يراعي توازنات القوى الدولية والضغوط المتداخلة إقليمياً وعالمياً.
وفي حين نجح الرئيس الراحل أنور السادات في استعادة سيناء وتثبيت سلام دائم، بفعل شجاعة كان الآخرون يلومونه عليها، ومع مرور الوقت يفقدون فرصاً مماثلة لإنهاء الصراع وحل القضية الفلسطينية، كما يصبح الطرف الإسرائيلي ومن خلفه الأميركي أكثر تعنتاً، بينما كانوا من قبل على استعداد لـ«التنازل».
ما يتم تداوله من تسريبات حول صفقة القرن حتى الآن، يتضمن الكثير من التشويش، ربما بهدف اختبار المواقف المحلية والدولية، وعلى ضوء ذلك يتم إحداث تغييرات في مضمون الصفقة بما يتناسب مع أية ردود فعل سلبية. ومهما كانت ملامح الصفقة التي تعد لها الولايات المتحدة الأميركية وتختبر فرص نجاحها وسيناريوهاتها، يجب أن يكون لدى حكومات وشعوب المنطقة وعياً بأهمية الحصول على مكاسب ممكنة، بدلاً من تأجيل الصراع وترحيله إلى أن يفقد المزيد من قيمته وضغوطه على الطرف الإسرائيلي ومن خلفه المجتمع الدولي.
لقد أصبحت القضية الفلسطينية مثالاً واضحاً على إضاعة الفرص، بل والمساهمة المتكررة من دون قصد في انتفاخ إسرائيل وتمدد مستوطناتها، وتفويت العديد من المداخل لانتزاع الحقوق، إلى أن أصبح الحصول على الحد الأدنى منها الآن أصعب بكثير من العقود الماضية.
وبناءً على قراءة المشهد بكل تقاطعاته، يبدو أن فرص نجاح الصفقة المرتقبة لا تختلف عن فرص المشاريع السابقة، لأن التعنت الإسرائيلي مستمر ويرفع سقفه بانتظام للمطالبة بشرعنة استيطانه وعدم منح أي مكسب للفلسطينيين.
وبعيداً عن الغرق في التفاصيل، هناك متغيرات تشهدها المنطقة، بالتزامن مع وجود حراك عسكري أميركي وروسي واسع لإعادة رسم التوازنات الجيوسياسية، ما يجعل من فرص إنجاح الصفقة الأميركية أكبر.
وسواء أكان هناك تفاؤل أم تشاؤم، يجب أن تتوفر لدى مختلف الأطراف رغبة في إيجاد حل نهائي، لأن الواقع معقد جداً، ولا ننسَ أن مساحة الضفة الغربية 5655 كم مربعاً، في حين تشير المصادر الرسمية الإسرائيلية إلى أن عدد المستوطنات في الضفة وحدها 156 مستوطنة، ويبلغ عدد سكانها حوالي 400 ألف نسمة، وجميعها مستوطنات تقع في محيط المدن الفلسطينية، وهي أشبه بالجُزر المستقلة عن بعضها البعض، والتي تتصل ببعضها البعض عبر شبكة من الطرقات، ما يجعل من موضوع دولة فلسطينية في الضفة الغربية غير ذي معنى من الناحية الفعلية، في ظل الإصرار الإسرائيلي على الاحتفاظ بهذه المستوطنات وإبقائها.
هناك تسريب آخر، يرى أن الحل سوف يتضمن إقامة كيان للفلسطينيين في قطاع غزّة فقط، مع اقتطاع بعض الأراضي العربية مقابل تعويض، ويشمل الحل توطين اللاجئين الفلسطينيين في أماكن وجودهم. فيما تبقى مسألة القدس مرتبطة بالجشع الإسرائيلي، في ظل وجود الضوء الأخضر الأميركي الذي يعتبر القدس تحت السيادة الإسرائيلية، من خلال خطوة نقل السفارة الأميركية.
وبناءً على ما سبق، فإن كل التسريبات بشأن صفقة القرن تتضمن عوائق، ولا شك أن الجانب العربي مطالب بتحديد موقف لا يكرر إخفاقات العقود السابقة. وفي نهاية المطاف لابد أن يكون هاجس السلام الجاد هو المحرك للمبادرات وردود الأفعال تجاهها. وعلينا كذلك تحفيز الجانب الأوروبي لتوفير ضمانات دولية تشجع على إعادة الاعتبار لمبدأ التفاوض لكي يكون فرصة حقيقية للسلام.