فتح قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب سحب القوات الأميركية من أفغانستان ملف الذكريات الأميركية المؤلمة حول الانسحاب من فيتنام في عام 1975. كان ذلك انسحاب المهزومين. يومها سارعت قوات فيتنام الشمالية إلى اقتحام العاصمة الجنوبية سايجون حتى وصلت إلى مبنى السفارة الأميركية. ولم ينجُ السفير الأميركي ومَن معه إلا عبر طائرة هليكوبتر حملتهم من سطح المبنى إلى حاملة طائرات كانت راسية في عرض البحر.

ظلت الولايات المتحدة بحاجة ماسة إلى الشفاء من تداعيات تلك «المذلة» لسنوات عديدة حتى جرت العملية العسكرية التي قامت بها قواتها في حرب الخليج الأولى في عام 1991. كانت واشنطن وخاصة وزارة الدفاع الأميركية –البنتاجون- تحتاج إلى انتصار ما، في مكان ما، يمسح وصمة ما حدث في سايجون. وكان لها ما أرادت.
الآن تدور عجلة التاريخ دورة أخرى. فالانسحاب من أفغانستان لا يعني انتهاء «طالبان». بل إنه على العكس، قد يمنح طالبان فرصة جديدة للانتقام. وهناك قلق جديّ من أن يبدأ هذا الانتقام –كما حدث في فيتنام- حتى قبل الانسحاب الأميركي. ولتجنّب هذه الكأس المرة، أوفدت الإدارة الأميركية إلى كابول سفيراً خاصاً للتفاوض مع «طالبان»، وهو زلماي خليل زادة. وهو من أصل أفغاني ولد في كابول، ويعرف اللغة الأوردية معرفة جيدة.
ولكن هل هذه المؤهلات كافية لنجاحه في مهمته؟
تنفق الولايات المتحدة سنوياً حوالي 45 مليار دولار في أفغانستان. وقد وصل مجموع ما أنفقته هناك منذ احتلالها (بعد جريمة 11 سبتمبر 2001 في نيويورك) حوالي تريليونين من الدولارات. ولكن هذه الأموال الطائلة لا تتجسد في طريق أو في جامعة أو مستشفى.
بعد ذلك انشغلت الولايات المتحدة –أو شغلت نفسها- في الحرب على العراق عام 2003، وحوّلت المصاريف المالية من مشاريع بناء الدولة الجديدة في أفغانستان، إلى برامج الحرب الجديدة على العراق. وبلغت نفقات هذه الحرب عدة مليارات أخرى، لم تؤدِ إلا إلى تدمير العراق وتفتيته. لقد كان الإنفاق المالي سخياً جداً في الحربين على أفغانستان والعراق. ولكن ذلك لم يضع ذلك حداً للإرهاب الذي انطلق من العراق إلى دول الجوار. أما في أفغانستان فإن الحرب لم تقضِ على «طالبان»، ولم تستأصل البنية التحتية للإرهاب الذي كان الحاضن الأساس لجريمة 11 سبتمبر.. والذي كان أيضاً المبرر للاحتلال.
إضافة إلى ذلك منيت الولايات المتحدة –مع حلفائها في حلف شمال الأطلسي- بخسائر بشرية فادحة من العسكريين. ولا يزال هناك 14 ألف جندي أميركي يزمع الرئيس ترامب على سحب نصفهم هذا العام. ولكن ماذا تكون النتيجة؟ لا حكومة ديمقراطية محلية قادرة على أن تقف على رجليها. ولا قوة عسكرية ذاتية تحول دون سيطرة «طالبان» على الدولة..
بل على العكس، فان الانسحاب قد يفتح الطريق أمام «طالبان» للسيطرة على كابول، كما سيطر الفيتكونغ على سايجون.
تتمثل مشكلة الولايات المتحدة في أفغانستان في أنها لم تنجح في بناء الدولة. ولم تنجح في القضاء على حركة «طالبان»، وهي مضطرة الآن للتفاوض معهم ليس من أجل بناء الدولة، بل على الأقل من أجل ضمان انسحاب مشرّف للقوات الأميركية. وسواء تمّ هذا الانسحاب بشرف على الطريقة العراقية، أو بمذلة على الطريقة السايجونية، فإن الرابح هم خصوم الولايات المتحدة في المنطقة: روسيا والصين، وحتى إيران وباكستان.
وبالنسبة للولايات المتحدة لم يعد موضوع الاحتلال مطروحاً. المطروح هو كيف يتم الانسحاب؟

*كاتب لبناني