بمجيء رمضان كل عام، نعلق المقل في هلاله، مزينين بها نوافذ البيوت وحجرات الأطفال، لغرس حبه في نفوسهم، وتهيئة لمشاركتهم إيانا سحوره وإفطاره على وجه العادة التي تقتضي الامتناع عن الطعام والشراب من وقت الإمساك، لحين غروب الشمس.
لكن، أليسَ الأحرى بنا الدفع بأنفسنا للصوم على وجه الحقيقة لا العادة، وبذلك نكون قد نقلنا لأبنائنا ومن تبعهم الصوم الحق، دون الاقتصار على تكديس صور الطعام والإسراف والبذخ في مخيلتهم، ومنظومتهم الفكرية.
ثم من منا توقف لوهلة مع نفسه مقارناً بين ما يؤدي وما يجب أن يؤدي خلال الأيام المعدودات؟ يقول الحق في الحديث القدسي: «عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ» جاعلاً جل في علاه أجر ما يقدم خلال هذا الشهر من العبادات بلا تحديد لأجرها، وكأنه وجد لإنعاش طموح المخلصين في العبادات، وللمثابرة في ذلك وعدم التوقف عند قدر معين، ذلك أن الصوم عبادة قائمة على الإخلاص في النية قبل الأداء الذي يعد جله باطناً لا ظاهراً للناس، فلا تقع فيها رياء كغيرها، وحين خص الله هذه العبادة لنفسه، دلنا ذلك على قدر هذه العبادة ومحبة الخالق لها، فضلاً عن أن لك حرية الظن بالله عند التفكير بجزائها، ومع ذلك كله يبقى – للأسف – كثر منا لم يبصر الحكمة العظيمة من ذلك ولم يحاول الوصول إليها بعد.
إن ما تحويه هذه الأيام المباركة من خصوصية، تحتم علينا النظر في صفحتنا خلال سنة مضت، وإعادة خط أنفسنا داخلها من جديد، من خلال معايشة أيامه بطريقة فريدة، باعتباره محطة لتصفية شوائب سنة كاملة، وفرصة عريضة لإعادة الصياغة، والنظر في محصول الفرد وإنعاش مكوناته الإنسانية من روح ونفس وجسد، واستلهام القوة من أجوائه الإيمانية، ونهاره العامر بالأعمال الصالحة مما يدفع بنا لقمع الباطل، وتدريب وتقوية «نعمة الإرادة» في الإنسان، التي تقلب موازين نفسه لتنعكس على جوارحه في ابتغاء وتحقيق الأفضل، وإنعاشاً لما جف من عروق روحية قبل أن تكون جسدية.
ولعل رمضان كالشجرة المثمرة، التي لابد من ملاحظة أوراقها اليانعة، «أستاذتنا» في البذل والخير والعطاء، وثمارها ناضجة، «منارتنا» لنواميس الهداية والاهتداء، بعداً وإنكاراً لكل فكرة فاسدة، وسعياً لنضوج فكري يسوق لعلو وازدهار، مرآته نحن ومِعْوَلُه أوطاننا بحكوماتها الرشيدة، ومؤسساتها العازمة على الأفضل، رمضان يجعل من أرواحنا دائمة الخضرة، لا تشهد خريفاً، إلا إسقاطاً لكل سيئ من العادات والسلوكيات، إحلالاً لبراعم خضراء وتبقى كذلك.
رمضان يجعلنا نبصر بقلوبنا، تلك الأغصان الهزيلة باهتة الملامح مربيةً لأنفسنا، ومرددةً ثلاثاً: «لا تألفوا النعم»، لتجعل منا أنفساً طاهرة، تبحث بحرص على أخٍ إنسان نتقاسم معه شق تمرة، لا نفساً عجولةً لا تبحث إلا عن «مائدة»، تفسد لذة رشاقة الصائم، وتطمر من نشاطه، وتنهي رمضانه بعد دقائق من كل أذان مغرب! وأخيراً علينا أن نعي ونتدارك ما تبقى من هذه الأيام المباركة، التي يكرمنا الله برحابها بتجديد فرصة، لتجديد «إنسان» مبني على «وعي»، يقول ويصدق حين ينطق: «ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله».