لقد قضيت معظم حياتي في البحرية الأميركية، منها 11 عاماً في المحيطات العميقة، بعيداً عن مشاهدة الأرض. وقد جعلني ذلك أدرك حقيقة أن المحيطات تغطي 70 في المئة من سطح الكرة الأرضية، وهو ما يعني أن مساحة المحيط الهادئ فقط تناهز مساحة جميع اليابسة في العالم مجتمعة. وينتج المحيط معظم الأكسجين الذين نتنفسه، وقدر هائل من البروتين الذي نستهلكه. وتنتقل عبره أكثر من 90 في المئة من التجارة العالمية، وتُستخرج من باطنه كميات هائلة من النفط والغاز. لكن بسبب التغير المناخي، ترتفع إملاءات الأمن القومي للمياه مثلما ترتفع مناسيب مستويات البحار حول العالم.
وخلال الأسبوع الماضي، أظهر بيانان دوليان ينمّان عن قلق شديد كيف أصبحت التحديات البيئية مترابطة. كان البيان الأول عبارة عن تقرير للأمم المتحدة يُحذّر من أن أكثر من مليون نبتة وفصيلة حيوانية (من بين ثمانية ملايين فصيلة على وجه الأرض) تواجه خطر الانقراض في العقود المقبلة. وفي داخل التقرير، توجد تعليقات مضنية حول صحة المحيطات: حيث يحدث تراجع سريع في الثروات السمكية (مع تلاشي نحو ثلث جميع مناطق الأسماك بشكل سريع)، وخسارة هائلة في الثدييات البحرية، وذوبان في الغلاف الجليدي القطبي، وتتجمع معادن ثقيلة وترسيبات سامة وملوثات أخرى بمعدل 400 مليون طن سنوياً، وزيادة في تلوث البلاستيك، ومئات من «المناطق الميتة» حيث لم يعد من الممكن وجود حياة بحرية، وبالطبع ارتفاع مستويات سطح البحر. وتناولت كثيراً من هذه الأمور في كتابي «قوة البحر: التاريخ الجيوسياسي للمحيطات العالمية» المنشور في عام 2017، غير أن الأمور تدهورت بشدة منذ ذلك الحين. وهذا التقرير هو جهد عالمي مخلص أنتجه زهاء 150 خبيراً علمياً من 50 دولة.
وأما البيان الثاني، فكان من المفترض أن يوقعه وزير الخارجية الأميركي «مايك بومبيو» في اجتماع «المجلس القطبي الشمالي»، لكنه رفض توقيع بيان المؤتمر المتفق عليه، بسبب إشارته إلى ارتفاع درجة حرارة الأرض، الأمر الذي تعتبره إدارة ترامب غير مقبول. والمجلس هو هيئة بارزة مكونة من 8 دول تحد جميعها «البحر القطبي»، وهذه الدول هي الولايات المتحدة وروسيا وكندا والدانمارك (بفضل جزيرة جرينلاند) والنرويج والسويد وآيسلندا وفنلندا. وتتعاون هذه الدول من أجل التنمية المستدامة لمنطقة «الشمال العالي»، مثلما يطلق عليها أصدقاؤنا الكنديون.
وأدى رفض الولايات المتحدة الإقرار بالاحترار المناخي باعتباره تهديداً على المحيط القطبي الشمالي إلى تقويض اتفاق مهم آخر. وعلى رغم من أن ذلك الرفض لا يرقى إلى مستوى قرار ترامب الخروج من اتفاق باريس بشأن التغير المناخي، فإنه يمثل عقبة ضخمة على طريق حماية المنطقة التي تعتبر أكثر المناطق البيئية في العالم عرضة للخطر.
ودعونا نضع العلم المجرد للحظة، على رغم من أن غالبية ضخمة من علماء العالم المعروفين يجدونه مقنعاً، وننظر إلى حقيقة يمكن إدراكها. فبصفتي بحاراً بسيطاً أبحر عبر هذه المياه، سأخبركم حقيقة مجردة: الثلوج تذوب في الغطاء الجليدي القطبي، وتذوب بسرعة. ولذلك تأثير جيوسياسي وتداعيات أمنية شديدة، وخصوصاً بينما أصبح المحيط القطبي مفتوحاً لعبور السفن طوال العام، ويوفر بيئة أكثر قابلية لاستغلال النفط والغاز. وهو ما يعني أن المنطقة ستصبح موضع منافسة جيوسياسية كبرى.
فماذا إذن يتعين على التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة أن يفعل من أجل التأهب في مواجهة هذه التداعيات؟
أولاً: زيادة الانتباه العلمي لكشف مزيد من الأدلة على التهديدات التي يمثلها التغير المناخي، وإلى أي مدى ستتدهور الأمور إذا لم تُغيّر البشرية مسارها. ولا تزال هناك عوامل أخرى مؤثرة، منها على سبيل المثال الرئيس الأميركي، الذي يبدو من الواضح أنه غير مقتنع بأن ذلك كله يمثل تهديداً. لذا، نحتاج إلى مزيد من الأبحاث غير الانفعالية والحجج المرتكزة على الحقائق لكسب تأييد منكري التغير المناخي. ونظراً لتردد إدارة ترامب في الاستثمار في هذه الجهود، فهناك حاجة إلى مزيد من الدعم الدولي من القطاع الخاص والمنظمات غير الحكومية.
ويجب أن يكون الجيش الأميركي متأهباً لتداعيات التغير المناخي. ويعني ذلك إدراك أنه سيُستدعى كثيراً في مواجهة كوارث طبيعية مثل حرائق الغابات والجفاف والأعاصير.
وينبغي أن تحصل القيادة الشمالية في وزارة الدفاع، التي تتعامل مع حالات الطوارئ المحلية، على مزيد من التمويل من أجل التخطيط والتدريب ومناورات التعامل مع التحديات البيئية. وخطط الطوارئ العالمية المعدة من قبل القيادات المقاتلة كافة وقيادة الأركان المشتركة ينبغي الاستفادة منها في التحديات الأمنية الناجمة عن التغير المناخي.
وأخيراً: على أميركا وحلفائها جعل منطقة المحيط القطبي الشمالي أولوية كبرى. فذلك المحيط سيمثل مجموعة فريدة من التحديات، بداية من القدرة على العمل بفاعلية وأمان في تلك البيئة شديدة الصعوبة. ويحتاج سلاح حرس السواحل الأميركي إلى مزيد من التمويل من أجل التعاقد على «كسّارات ثلوج»، لاسيما أن لديه الآن كسّارة واحدة فقط قادرة على العمل خلال العام بأسره، في حين أن روسيا لديها أكثر من 25 كسّارة. وعلى سلاح البحرية أن يقوم بأنشطة في المنطقة، ويجب جمع مزيد من المعلومات الاستخباراتية، خصوصاً حول الأنشطة الروسية والصينية. وعلى الناتو والاتحاد الأوروبي تعزيز التعاون الأمني.
يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفيس»