يبدو هذا العنوان غريباً بل متناقضاً، فمن البديهيات المعروفة أن الديمقراطية حسب تعريفها اللغوي نفسه هي حكم الشعب، فكيف يمكن الحديث عن التعارض بين الشعب والديمقراطية؟
ما نعنيه هنا بالاستناد إلى الأحداث الكبرى التي تعرفها حالياً منطقتنا العربية والعالم من حولنا، هو أن النظام الإجرائي التمثيلي الذي أبدعه الفكر الليبرالي الحديث لتنظيم التعددية السياسية والفكرية وحل مشكل شرعية الأنظمة السياسية، لم يعد في كثير من الأحيان قادراً على أداء وظيفته الأساسية التي هي ضمان السلم الأهلي والعدالة المدنية في مجتمعات فردية متنوعة.
وبطبيعة الأمر، الخلاف واسع بين المجتمعات الديمقراطية الغربية والبلدان التي تعرف مصاعب الانتقال الديمقراطي أو الديمقراطيات الناشئة، لكن مما لا شك فيه أن مختلف هذه البلدان تشهد تنامي ظواهر متشابهة وإن اختلفت سياقاتها وسبل التعامل معها. ومن هذه الظواهر الملاحظة: ضعف وتراجع الأحزاب السياسية، وصعود الحركات الحقوقية والمدنية، وتنامي النزعات الشعبوية في صيغها المختلفة من اليمين القومي إلى الجماعات الدينية الراديكالية إلى اليسار الجديد.
لقد أطلق عالما الاجتماع الفرنسي مارك لازار والإيطالي ايلفو ديامانتي على هذه الظاهرة عبارة بوبلوغرازيا poplocrazia، ويعنيان بها الانطلاق من فكرة السيادة المطلقة للشعب في مقابل كل النظم التمثيلية في إدارة الشأن العمومي، بما يعني الانفصام بين المنظومة الديمقراطية المبنية على الهوية الجماعية والمنظومة الليبرالية المبنية على فكر الأنوار ومدونة حقوق الإنسان.
فما يهم التيارات الشعبوية الجديدة هو التعبير عن ما تعتبره الديناميكية الشعبية الحية في مواجهة النخب السياسية والاجتماعية والهياكل المؤسسية، التي تعتبر أنها تشكل مراكز مضادة أو معيقة لحكم وسيادة الشعوب.
لا فرق هنا بين خطاب اليمين النمساوي المتطرف وخطاب اليسار الإسباني الجديد (بوديموس) من جهة، وخطاب بعض النزعات الشبابية المدنية التي سمعنا صوتها مؤخراً في الجزائر والسودان، في دعوتها إلى إلغاء وتعطيل المؤسسات الدستورية باسم إرادة الشعب السيادية. الفرق الوحيد هو أن الشعبويات الغربية، وإن احتجت بقوة ضد الشرعية القائمة (مثل حركة السترات الصفراء في فرنسا)، فإنها لا تتبنى خطاب القطيعة الثورية المطلقة، في حين أن ما نشهده في بعض الساحات العربية هو المطالبة بإعادة تأسيس كاملة للمنظومة السياسية، بل العمل على هندسة جديدة تماماً للدولة.
ومن المعروف أن المفكر السياسي الفرنسي بنجامين كونستانت قد ميز في محاضرة مشهورة عام 1819 بين ما سماه «حرية الأقدمين»، أي تصور الديمقراطيات القديمة للحرية المبني على فكرة المشاركة المفتوحة في الحقل العمومي و«حرية المحدثين» التي اعتمدتها الديمقراطيات الحديثة، وهي مؤسسة على حماية الإرادة الفردية وتحريرها في مقابل هيمنة السلط الجماعية، وفي مقدمتها سلطة الدولة، فهي حرية فردية تعبر عن نفسها في وسائط مؤسسية منظمة.
ومن هنا فإن الانتفاضات الراديكالية التي يطلق عليها عادة مفهوم الثورة الشعبية تتعارض مع الديمقراطية من وجهين: الوجه المؤسسي المبني على هياكل تمثيلية وسلطات تفويضية، مهما كان التحفظ على مسار تشكلها فهي المرتكز العملي للفعل السياسي ومن دونها لا يوجد مقياس ملموس للإرادة العمومية الحرة، والوجه المعياري المرتبط بالسقف القيمي والمرجعي للنظام السياسي الذي لا يمكن إلغاؤه باسم الإرادة السيادية للأمة.
في المستوى الأول يطرح إشكال سلطة التكوين في السياسة التي هي اللحظة التعاقدية الأصلية التي افترضها فلاسفة العقد الاجتماعي، لكنهم اتفقوا على أنها مجرد فرضية نظرية وليست لحظة تاريخية محددة، ومن البديهي أن أي محاولة لاستعادتها تطرح مشكل التنوع الجوهري للإرادات الفردية الذي لا حل له؛ فثمة فرق كبير بين مفهوم الأمة في دلالته الجماعية الحقيقية التي ليست سوى مسلّمة معيارية لا حقيقة فعلية، وبين الجمهور النشط الذي هو أقلية حيوية قادرة على فرض إرادتها في الميدان العمومي.
وفي المستوى الثاني يطرح إشكال الانفصام بين المسطرة الإجرائية للديمقراطية التمثيلية وقيمها النظرية التي هي قيم الفردية الليبرالية وحقوق الإنسان النابعة من فكر الأنوار، ويطرح هذا الإشكال عندما تستفيد الجماعات المناوئة للقيم الليبرالية التنويرية من المسطرة الانتخابية (مثل جماعات الإسلام السياسي والأحزاب الطائفية) بما يقود إلى انتكاسة التجربة الديمقراطية.
فما يتعين التأكيد عليه هو أن الديمقراطية ليست حكم الشعب بمعنى التعبير عن هويته الأحادية وتجسيد روحه الحضارية المنسجمة، فهذا التصور الأسطوري هو الذي استندت إليه النزعات الرومانسية القومية في أوروبا في القرن التاسع عشر وأخذته عنها التيارات القومية العربية في منطقتنا، بل هي في الحقيقة آلية فعالة لإدارة التنوع السياسي والاجتماعي بالطرق السلمية، ومن هنا تتعدد مقارباتها الإجرائية بحسب السياقات الاجتماعية، ومن ثم ندرك خطوط التمايز الواضحة بين التجارب الديمقراطية في العالم.
كما أن الديمقراطية الحديثة ليست لحظة تأسيس حر للشرعية السياسية، فمبادئها الناظمة ليست مدار نقاش، بل هي من قواعدها المرجعية السابقة على الممارسة الديمقراطية نفسها، ولذا لا مناص من التأكيد على القيم الليبرالية التي إن بدت من تواضعات الفاعلين السياسيين، فهي في الحقيقة المسلمات الأولى التي لا خيار لهم في قبولها.