بدا «المجتمع المدني» وكأنه مخلوق غربي، منذ أن تحدث أرسطو عن المجتمع الوطني، ثم ميز أتباعه من الفلاسفة في هذا المجتمع بين فئات الرجال السادة والنساء والعبيد. وقد سرى المفهوم إلى الكتابات العربية المعاصرة، وعلى نحو أوسع خلال العقود الثلاثة الماضية. لكنه وجد قبل ذلك بقرون في الثقافة الحضرية الإسلامية، حيث شمل مفاهيم متعددة، مثل مجتمع القضاة (الفقهاء) والتجار والصناع والطوائف الدينية وغير الدينية والجند المستجلبين من أنحاء العالم والإسلامي.. حتى كادت كل فئة من هؤلاء، تشكل فريقاً اجتماعياً مستقلاً أو متميزاً بذاته.
وقبل أن تنمو هذه الظاهرة في الغرب مع ظهور الفلسفات الحديثة على أيدي مفكرين مثل «مونتسكيو» و«توكوفيل» و«هيجل».. والذين تعززت معهم قوة انفصال الدولة عن الكنيسة ودور المجتمع المدني، كانت تظهِر نقط تميزها عند المجتمعات الإسلامية، بما لا نريد تفصيله هنا، ونحن نقصد الحديث عن الظاهرة في أنحاء من أفريقيا وخاصة بروزها في غرب القارة الأفريقية.
لم تكن أفريقيا – كما يزعم القائلون بتخلفها المستدام – بعيدة عن هذه الظاهرة الاجتماعية، وهي التي شهدت ظهور ممالك كبرى سميت إمبراطوريات، مثل غانا ومالي والماندينج.. إلخ، وذلك في نفس الوقت الذي كانت فيه ممالك الرومان والغال واليونان.. تغرق في الانكفاء على ذاتها، الأمر الذي جعل العالم يشهد الحروب الصليبية تارة، وحروب المغول والتتار تارة أخرى، بينما كانت الممالك والسلاطين الأفريقية تنعم بقدر كبير من الأمن والاستقرار، حتى أن أمراء «كانو» و«الماندينغ» أقاموا أقوى العلاقات مع المشرق العربي ومع مناطق آسيا الوسطى. وفى العالم الإسلامي عموماً قامت قوى المجتمع المدني، وكثير من القوى الاجتماعية بدور بارز، أسس لجعل هذه المنطقة الممتدة من الشرق الآسيوي إلى الغرب الأفريقي، ساحة تجارة عالمية ما زلنا إلى الآن نتساءل عن أسباب تدهورها فيما بعد.
وربما كان الاستعمار الأوروبي قد حجب بعض الطاقات المدنية في منطقة الغرب الأفريقي لصالحه، وسمح فقط بالقدر الذي يكفي لإدارة المزارع والتجارة المحلية. ومع ذلك، فقد شهدت الفترة الاستعمارية حركة التجمعات الدينية والاجتماعية الكبرى كأداة مقاومة، وكانت رسائل ومؤلفات الفقهاء في غرب وشمال غرب أفريقيا.. تمثل أعمالاً ملحميةً يتداولها المسلمون وغير المسلمين. وجاءت عشرات العلماء من الغرب يبحثون عن مصادر المعرفة عند هؤلاء المسلمين، بما شكل حركة مجتمع مدني رسمت حدوداً مبكرة بين الدولة والمجتمع، أو قل بين السلطة والمجتمع وفق نظام الحكم الحديث.
لكن من المؤسف أن حركة الاستقلال، وتنظيماتها التحررية، قد فرضت نظام الحزب الواحد بدايةً من ستينيات القرن الماضي، مما ضيّق على تحرك التشكيلات الحرة للمجتمع المدني وأعاقها عن القيام بدورها.
وخلال تلك العقود، شهدت حركة المجتمع المدني الأفريقي انحساراً نتيجة ضيق الفضاءات السياسية والمجتمعية المتاحة. ولم يبق في إطار هذه الدول الجديدة –عدا القليل منها– إلا مساحات محدودة للقطاع الخاص الذي دفعت مصالح الانفتاح الاقتصادي، والليبرالية الجديدة، إلى تسليم السلطات بهامش لتحركات نوع محدد منه، تغلب عليه سيطرة رجال الأعمال والطبقات الجديدة.
وقد بتنا الآن أمام ظاهرتين: مجتمع مدني طائفي ديني عليه التعبئة للسلطة غالباً، ومجتمع مدني منفتح على العالم الخارجي، يواجه معضلة التمويل – داخلياً أو خارجياً– ليستطيع القيام بدوره الاجتماعي والتنموي.
وقد أفضت الصراعات البينية، خلال السنوات الأخيرة، بين الدول في منطقة غرب أفريقيا، إلى ظهور منظمات مجتمع مدني ذات أغراض متعددة، يذكر منها الباحث «عبده باه»، في رسالته المتميزة للدكتوراه حول «التكامل الإقليمي للجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا»، مئات المنظمات الخيرية المختصة بتقديم الخدمات الصحية، ومنظمة العمل الاجتماعي الإسعافي في ساحات الصراع المسلح.. مما يسمح بالحديث عن منظمات كبرى يصل عددها أكثر من 500 منظمة على المستوى الإقليمي، توجد منها 150 منظمة في غانا وحدها. وقد أصبح عدد كبير من هذه المنظمات يرتبط بهيئة الأمم المتحدة ومنظماتها المتخصصة، وتحول عدد آخر لمكافحة الصراعات والحروب الأهلية، والبعض الآخر لمنع إثارة النزاعات القبلية والطائفية.
ولئن ساهم دور المجتمع المدني الأفريقي، خلال التسعينيات، في تحريك مجتمعات في هذه الدول ضد حكوماتها، لما شهدناه من مؤتمرات شعبية تريد التخلص من نظم الحكم العسكرية، فإن ذلك الحراك الاحتجاجي الأفريقي سرعان ما فقد حماسه، لتشتعل جبهة الصرع ضد المتطرفين والجماعات الإرهابية المسلحة التي أعلنت الحرب على الدولة والمجتمع برمته في منطقة الغرب الأفريقي.