ليست مهمة الفيلسوف الذي يتعامل مع الوافد الغربي نقله وانتزاعه وغرسه من بيئة لزرعها في بيئة أخرى، وبناء مذاهبه ومدارسه في بيئة غير مواتية. فقد حاول رواد النهضة ذلك ببناء صروح ليبرالية أو قومية أو اشتراكية أو حتى إسلامية مستنيرة فوق أرضية تراثية محافظة موروثة ترفض الجسم الغريب. فسرعان ما انهارت، وظهر الموروث القديم حاملا لحركات إسلامية محافظة تتهم التنوير بالتغريب. وكلما تفاقمت الأزمات، وتعاظمت التحديات، واتسعت رقعة احتلال الأراضي، وزاد البون بين الأغنياء والفقراء، وازداد التشرذم والتفتت والتجزئة، واشتد التغريب ظهرت الحركات الإسلامية باعتبارها المخلص من أزمات الأيديولوجيات العلمانية للتحديث، الليبرالية والقومية والماركسية.
فكل من يأخذ موقفاً نقدياً من الغرب، متميزاً عنه دون الانبهار به والذوبان فيه والترويج لبضاعته، محولاً الغرب من كونه مصدراً للعلم كي يصبح موضوعاً للعلم فهو الفيلسوف كما كان الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد فلاسفة بالنسبة للوافد اليوناني، ومسكويه بالنسبة للوافد الفارسي، والبيروني بالنسبة للوافد الهندي.
والفيلسوف هو الذي ينظِّر للواقع تنظيراً مباشراً ويحوله إلى نص. ولا يكتفي بتأويل النصوص القديمة أو الحديثة وإلا كان عبدا للنصوص. لا يستطيع أن يرى العالم إلا إذا وضع على عينيه «نظارة نص» يرى الواقع من خلالها. فلو كانت النظارة بيضاء ظهر العالم أبيض، ولو كانت سوداء ظهر العالم أسود، ولو كانت حمراء ظهر العالم أحمر.
لذلك اتهمنا بأننا حضارة نص، وفكر كتاب مثل أهل الكتاب. ويزهو الغرب علينا بأنه وحده صاحب حضارة الفعل، وحجة العقل بعد أن قضى على حجة النص. ونحن مازلنا نعتمد على حجة النص. فالنص أساس العقل كما ورثنا عن الأشعرية القديمة. وعرفنا بالتأويل والاشتباه، والظاهر والباطن والفكر، والازدواجية والنفاق في السلوك، نظهر غير ما نبطن، ونبطن غير ما نظهر، نقول ما لا نعتقد، ونعتقد ما لا نقول. وهو ما لاحظه القرآن من قبل «يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون». كما نقد القرآن الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا.
الفيلسوف هو الذي يعطينا نظرية في تحرير الأرض المحتلة ويقدم لنا ثقافة المقاومة، ولاهوت الأرض، وعقائد التحرير. وهو الذي يعطينا نظرية في حرية الفرد، ويبحث عن الجذور التاريخية لأزمة الحرية والديمقراطية في وجداننا العربي المعاصر. وهو الذي يصوغ نظرية ويضع آلية للعدالة الاجتماعية. فأغنى أغنياء العالم منا. وأفقر فقراء العالم فينا. وهو الذي يضع عقيدة للوحدة لحماية الأمة من التشرذم والتجزئة كما فعل الرومانسيون الألمان، فيشته وهيجل وشلنج تدعيما للوحدة الألمانية. وهو الذي يدافع عن الهوية ويضع قانوناً للذاتية كما حاول إقبال ضد التغريب، والتميع في الغرب، والاغتراب في الآخر. وهو الذي يعطي نظرية في التنمية المستقلة ضد التبعية والمعونات الأجنبية والاستيراد وقيم الاستهلاك. وهو القادر على تجنيد الجماهير وحشد الناس، ونقلهم من اللامبالاة إلى الالتزام، ومن الفتور إلى الحماس كما حاول الكواكبي من قبل في «أم القرى».
الفيلسوف هو صاحب الموقف الحضاري والذي يعي المرحلة التاريخية التي تعيشها حضارته، وينقلها من مرحلة إلى أخرى. الفيلسوف ابن عصره، وابن وقته، وابن زمنه، وابن مجتمعه. ليس هو الذي يعيش خارج الزمان، يعلِّم أرسطو كما يعلِّم حرفة، ويلقِّن المنطق كما يفعل الشيخ مع المريد والذي مازال يعيش في العصر العثماني.
ليس الفيلسوف هو مؤرخ الفلسفة الذي يحمل بضاعة يبيعها لمن يشاء لأبناء وطنه ولدور النشر. الفيلسوف هو صاحب الوعي الفلسفي. فالفلسفة ليست معلومات فلسفية ينقلها معلم إلى تلميذ بل هو الذي يمارس فعل التفلسف. وفي فعل التفلسف تتوحد الذات والموضوع. فلا ذات بلا موضوع، ولا أستاذ بلا قضية. ولا موضوع بلا ذات، ولا وطن بلا مواطن.
كان معظم الفلاسفة في التاريخ أصحاب قضايا وحملة رسالات كالأنبياء. يصدق عليهم «العلماء ورثة الأنبياء». كان سقراط صاحب قضية، تنوير الناس. وأفلاطون حامل رسالة، تربية المجتمع الأثيني وتكوين المدينة الفاضلة. وأوغسطين صاحب موقف، الدفاع عن المسيحية. ودافع سيجر البرابنتي باسم الرشدية اللاتينية عن العقل والطبيعة، عن الفكر الحر والعلم الدقيق. وأراد ديكارت وبيكون أن يؤسسا المعرفة الجديدة. كما أراد كانط أن يبين إمكانيات العقل، وهيجل أن يكشف عن قوانين الجدل، وفيشته أن يؤسس نظرية في العلم باعتبارها حرية، وماركس أن يغير العالم.
وفي تراثنا القديم، كان المتكلمون والفلاسفة والصوفية أصحاب قضايا. كانت الفرق الكلامية أحزابا سياسية تؤول العقائد الدينية إلى أيديولوجيات للسلطة القائمة أو للمعارضة السياسية. وأراد الحكماء تمثل الوافد داخل الموروث في جدل ثقافي بين الحضارات. وكان الصوفية يريدون الاستمرار في المقاومة، مقاومة النفس، إذا ما استعصت مقاومة الظلم والطغيان في العالم الخارجي. فالثقافة رؤية، والفكر موقف، والعلم التزام.
*أستاذ الفلسفة - جامعة القاهرة