عرفت الدراسات والتحليلات مصطلح «الفقاعة الاقتصادية» أو «اقتصاد البالون» وهو في جانبه الجزئي تعبيرٌ عن ارتفاع سعر سلعة ما بطريقة مغالى فيها أو خيالية جراء المضاربة عليها، حتى نصل إلى مرحلة الانفجار، فينهار سعرها. أما جانبه الكلي فهو يصف رواجا اقتصاديا مؤقتا لا يتكئ على قاعدة إنتاجية متينة تصنع دخلا منتظما ورفاهاً دائماً، وبذا تؤثر هذه الفقاعة سلباً على الاقتصاد، نظراً لأنها تقود إلى توزيع غير عادل للموارد على سبل التوظيف والاستخدام، وإنفاق مفرط للمستهلكين، نظراً لارتفاع أسعار السلع، وتحقيق البعض لأرباح طائلة دون بذل جهد حقيقي مثلما يجري في سمسرة العقارات والاستثمار في البورصات. وقد عرف العالم نتائج كارثية لمثل هذه الفقاعات مثل الكساد الذي شهدته الولايات المتحدة الأميركية عام 1930، واليابان 1990، ودول النمور الآسيوية.
وبالطبع فإن مفهوم «الفقاعة» انتقل من الطبيعة ومظاهرها إلى الاقتصاد، لكنه لم يلبث أن دخل إلى مجال السياسة، فظهر مصطلح «الفقاعة السياسية»، ممعنا في مجازيته، وصورته التي قد تخطف العيون لكنها لا تنطوي على مضمون حقيقي، ولهذا لا تلبث أن يظهر زيفها، حين توضع في اختبار حقيقي.
وقد تجسدت الفقاعات السياسية أحيانا في حالة الشعبوية التي ظهرت في تاريخ الأمم خلال فترات معينة، حيث احتشد الناس وراء زعامة أو هيئة أو حزب معولين عليه في أن ينقلهم من حال إلى حال، مبالغين في تشخيص قدراته، ومفرطين في الثقة فيه، ورفع درجة الطموح حياله، لكنهم بمرور الوقت يكتشفون أنه كان مجرد فقاعة هائلة، رائقة المنظر، ما إن تلامس الواقع الخشن، بما فيه من تدافع قاس، وظروف جارحة، حتى تنفجر، وتنهار، ومعها تتهاوى كل الآمال.
وحفل التاريخ السياسي للأمم بفقاعات لأشخاص وحوادث ووقائع، أراد البعض أن يرسخوها، وكأنها قُدَّتْ من صخر صوان، فجاء من سعى خلف حقائقها، ثم نخر فيها، فتهاوت في يده، واكتشف الناس أنها لم تكن بالقوة والنصاعة والرسوخ الذي أمكن للدعايات السياسة أن تروجه لقرون طويلة.
لكن الأكثر ضراوة هي الفقاعات التي تصنعها بعض الأيديولوجيات، حين تحمل لأتباعها وعوداً طليقة، وآمالاً مجنحة، وتصورات لا يقيدها شيء، ولا يحدها حد. ويؤمن هؤلاء بأن كل هذا راسخ صلب، لا يمكن أن يذوب في الهواء، ثم يكتشفون تباعا أنه مجرد فقاعة، وأن الثقة فيه كانت محض غرور، وأن استعراض القوة من قبله كان زيفاً.
ليس معنى هذا أن كل إطار أو مرجعية هي مجرد فراغ، إنما هناك مرجعيات ليست متماسكة، تأخذ من يؤمنون بها إلى وهم، وليس الوهم في حقيقته هنا سوى فراغ سياسي، له نتائج وخيمة على المجتمع، لأنه يخطف أبصار أنصار كثيرين إلى تلك البالونة الملونة الجاذبة، ويعتقدون أن بهاءها الرائق اللحظي سيدوم، ثم يكتشفون مع تتابع الأيام والأحداث والوقائع، أنها كذبة كبيرة.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل يمكن اعتبار «الفقاعات السياسية» نوعا من الفراغ؟ وأتصور أننا في هذه الحالة نكون بصدد فراغ متخيل في شكله، واقعي في وجوده الحياتي. فالذي يتصور أن هناك شيئا مكتملا في نظرية أو فكرة سياسية معتقدا أنها مكتفية بذاتها، غير عابئة بما يطرأ على الحياة من تغيرات، إنما يعيش في فراغ، ويصبح هو ابن الوهم، أو النية الحسنة، أو الإخلاص الأعمى لما تجب مراجعته كل يوم على ما يستجد على الواقع من تغيير.
إن إدراك الواقع السياسي، مهما كان فيه من مشكلات وأزمات وتحديات، أكثر نجاعة من استمراء الفقاعات السياسة، أو السير خلفها، وتضييع وقت، وبذل جهد مضن، سيكتشف أصحابه، بعد طول عناء، أنهم سعوا خلف سراب، وأن الحصافة والكياسة كانت تقتضي منهم أن يكتشفوا مبكرا الفارق الكبير بين الفقاعات السياسية الزائفة، وبين السياسات والخطط والاستراتيجيات التي تريد حقا تغيير الواقع.