لا يكاد يمر يوم دون أن تتعرض إدلب وأريافها إلى قصف يكون ضحاياه بالعشرات وأغلبهم نساء وأطفال، ولم تعد أعداد القتلى والشهداء وإن تجاوزت المئات تثير اهتماماً إعلامياً، فقد صارت حدثاً يومياً اعتاد الناس عليه، وقد أوشك عدد سكان إدلب أن يبلغ أربعة ملايين سوري، بعد أن قامت روسيا بتهجير عشرات الآلاف ممن رفضوا المصالحات القسرية في عدد كبير من مناطق المعارضة. مئات الآلاف من الهاربين من جحيم المعارك لجؤوا إلى إدلب وأريافها حين كانت قوى المعارضة العسكرية قادرة على تأمين الحماية لهم، وكانت خصوصية إدلب كونها متصلة جغرافياً بتركيا، ومعبر نزوح ولجوء إليها وعبرها إلى أوروبا.
ولم تكن سيطرة الفصائل ذات الصبغة الدينية  على الساحة العسكرية حدثاً محلياً، وإنما كان ضمن خطط دولية مبرمجة للقضاء على «الجيش الحر»، وإحلال قوى بديلة ترفع رايات وشعارات «القاعدة»، وتستدعي متطوعين ومرتزقة من مختلف بلدان العالم وقد تجاوزت أعدادهم عشرات الآلاف من المقاتلين الذين تفرغوا لقتال «الجيش الحر» تحديداً. والمتابعون يذكرون جيداً أن القوى المحلية الوطنية خاضت معارك ضد المتطرفين، وتمكنت من دحرهم وتم إخراج «داعش» من كل محافظة إدلب، حتى أن أكبر فصيل من المعارضة العسكرية الوطنية أعد عدته عام 2014 لمتابعة القضاء على تنظيمات «داعش» المشبوهة التي استولت على الرقة فجاءت أوامر من جهات دولية كبرى بإنهاء هذا الفصيل وسحقه، ومنع عنه الدعم العسكري بكل أشكاله، وظهر «جيش الفتح» ليعلن تحرير إدلب عام 2015 وبرز تنظيم «جبهة النصرة»، الذي تشكل منذ أواخر عام 2011 وقد أعلن انشقاقه لاحقاً عن تنظيم «القاعدة»، وأعلن عام 2016 اسماً جديداً هو (هيئة تحرير الشام)، ورغم اعتبار عدة دول للتنظيمات المتطرفة بكونها إرهابية، فإن قوى دولية خفية كانت تدعم هذه التنظيمات بهدف التعمية على أهداف الشعب، وكان مريباً أن توقف كثير من الدول الصديقة لسوريا كل أشكال الدعم عن القوى الوطنية التي تطالب بإقامة دولة مدنية ديمقراطية.
ولم يكن سلوك التنظيمات المتطرفة حين مارست الحكم في مناطقها يوحي بجديتها في مشروعها المزعوم، فقد اهتمت بالمظاهر الشكلية للدين، وغابت عنها العدالة التي هي جوهره، فأصبحت مناطقها ساحات خطف وقتل وسرقة وتفجيرات واعتقالات وصراعات بين أمراء الحرب، مما جعل المواطنين ينتفضون مرات ضدها، ويصرون على رفع راية الثورة وعلمها، ويضيقون بكون حكامهم الجدد غرباء عن سوريا، وكثير منهم مرتزقة من أمم شتى يتحكمون بمصير الشعب.
ولقد جاء اتفاق سوتشي بين تركيا وروسيا لإنهاء معضلة إدلب، ويبدو أن النظام كان مصراً على اقتحام إدلب بدعم من إيران وبإسناد جوي من روسيا، ولكن الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية عارضت ذلك، لأن هذا الاقتحام سيهدد بظهور موجات مليونية من النازحين الجدد إلى أوروبا عبر تركيا، كما أن استعادة النظام لإدلب وأرياف حلب وحماه الجنوبية سيجعل النظم قادراً على إعلان انتصاره العسكري النهائي، ولن يكون مضطراً لأي تفاوض مع معارضة لم تعد تملك أي حضور عسكري، وهذا سيعني استحالة عودة اللاجئين والنازحين والمشردين إلى مدنهم وقراهم، وهم يزيدون على ثلاثة عشر مليون سوري في منافي الداخل والخارج، وهذا ما سيجعل القضية السورية جرحاً مفتوحاً لعقود قادمة، وسيزداد النظام قوة على شعبه. فثمة أكثر من ثلاثة ملايين مواطن معارض ملاحقون ومطلوبون لأجهزة الأمن السورية، ومحال أن يجرؤ أحد منهم أو من أسرهم على العودة لأنه محكوم بالاعتقال وبالتصفية الجسدية. ويبدو أن تحريك دعاوى ضد النظام في أوروبا وتهيئة ملفات أمام الجنائية الدولية، فضلاً عن جاهزية «قانون سيزر» للتوقيع، تأتي كلها للضغط على النظام كي يقبل بالتفاوض. وستبقى إدلب وكذلك المنطقة الشرقية رهينة حتى يعلن النظام قبوله بالحل السياسي على مرجعية القرار 2254، ولن يكون الحل ممكناً إلا عبر تراتبية سيناريو القرار، بحيث يكون تشكيل هيئة حكم انتقالي خطوة أولى نحو الحل.