هل كان أستاذ المدرسة «البنا» مجنوناً حين أسّس في مصر سنة 1928 جماعة «الإخوان» التي تنشد تأسيس دولة إسلامية تقود العالم وتكون أستاذاً عليه؟! وهل كان القاضي «النبهاني» مجنوناً حين أسّس في القدس سنة 1953 «حزب التحرير» الذي يدعو إلى هدم الدول القائمة في العالم الإسلامي وإقامة دولة واحدة؟! وهل كان رجل الدين «الخميني» مجنوناً حين أقام في إيران سنة 1979 نظاماً للحكم يُشترط فيمن يقوده تخيّل أنه مكلّفٌ من الله بإقامة حكمه على الأرض؟! وهل كان المؤسسّون لعشرات الكيانات والتنظيمات والأعضاء فيها والأتباع والمنافحون والمتعاطفون.. فاقدين لعقولهم حين اعتقدوا أنه يمكنهم هدم النظام الدولي وجمع المسلمين تحت ظلّ إمام يقود على ظهر جواده ملايين الجهاديين على الخيل والبغال والحمير لغزو الشرق والغرب، وتخيير البشرية بين السيف والإسلام، وسبي نساء الأمم التي تأبى واسترقاق ذراريها بعد قتل رجالها شرّ قتلة، ثم رفع الرايات السود على البيت الأبيض والكرملين وقصر باكنغهام؟!
في الحقيقة لم يكن أي من هؤلاء مجنوناً أكثر من جنون الفكرة المعشّشة في بعض المجتمعات الإسلامية حول أن الأصل هو وجود دولة واحدة للمسلمين، ووجود أكثر من دولة استثناء، وأنّ الحدود بينها مُصطنعة، وأن السعي إلى إقامة الخلافة واجبٌ شرعي، وأننا مقصّرون في عدم هدم دولنا وإزالتها بالأيدي والمعاول، ومبايعة واحد من المليار وسبعمائة مليون مسلم ليكون الخليفة، والسمع له والطاعة، وجمع الأموال بين يديه، ليبني بها القصور المكسوّة بالقرميد، ويشتري الجواري والعبيد، ويوزّع ما تبقى منها على ولاة الأمصار في صُرَر!
ولقد منّ الله علينا برجال دين جهابذة أخرجونا من «ورطة» تعدّد الدول، فقالوا إن وجود أكثر من حاكم في زماننا ضرورة، نظراً لتباعد الأقطار وصعوبة تبلّغ الجميع بالأخبار، ولأنّ النصوص الدّالة على وجوب طاعة وليّ الأمر مطلقة، وتنطبق من ثم في حالة تعدّد الحكام، وانتهوا مشكورين إلى أن لكل واحد منهم السمع والطاعة حتى وإن قصّر في واجب هدم العالم. وهذا الرأي هو للمعتدلين، فالمتطرفون لا يقرّون بمبدأ تعدّد الحكام، ولا يرون شرعية لأي بلد إسلامي. أما الخميني فأبى «خنوع» المعتدلين وتفاهة طموح المتطرفين، إذ أرض العالم كله، بما فيها وما عليها، ملكٌ للإمام الغائب، والفقيه ينوب عنه، إذن للوليّ الفقيه أن يرسل إمام مسجد ليدير شؤون اليابان، وأن يمنح لواعظ مدينة نيويورك خالصة له، وأن يهب لفقير من قريته كافة أرصدة البنوك السويسرية.
وطوال الوقت نحن مشغولون في إدانة مَن نشطوا في تطبيق ما يُدرّس في المدارس، ويُردّد على المنابر، وتسطّر فيه المؤلفات، وتُنتج على هديه المسلسلات التي تحنّ للخلافة الواحدة وتئنّ من وجود دول متعددة ذات سيادة.. بدلاً من أن نذهب إلى هذا الذي نعتقد أنه واجبٌ ونرى إن كان واجباً أم كلامٌ فارغ. وطوال الوقت نحن نردّد أنّ الاستعمار استخدم معنا سياسة «فرّق تسد»، ونعتقد في دواخلنا أنه لولا تفرّق الكلمة لكنّا دولة واحدة ترتعد منها الأمم، وهذه هي نفسها أفكار البنا والنبهاني والخميني وابن لادن والبغدادي!

*كاتب إماراتي