ربما لا يُنهي نشر تقرير روبرت مولر، المحقق الخاص في قضية التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية، الجدلَ حول بعض أبعاد هذه القضية. لكنه يحسم الأمر بشأن علاقة الرئيس دونالد ترامب بهذا التدخل، ويجزم بعدم وجود أساس لاتهامه بالتآمر مع موسكو. ولذا جاء هذا التقرير، الذي نُشر الخميس الماضي، صادماً لوسائل إعلام أميركية عدة تجاوزت القواعد المهنية، وخضعت لتأثير مواقفها السياسية ضد ترامب، وجزمت بأنه تآمر، أو على الأقل تواطأ، مع روسيا خلال حملة الانتخابات الرئاسية عام 2016.
وتبدو الصدمة كبيرة بحجم اتهام الرئيس المنتخب بالتآمر مع دولة تُعد «عدواً» من زاوية الأمن القومي الأميركي. فقد أصبح الإعلام الذي يعارض ترامب، سواء أصاب أو أخطأ، في مأزق كبير يُضعف مصداقيته، ويضعه في قفص الاتهام، وقد ضُبط مُتلبساً بالكذب، بعد تبرئة رئيس لم يكف عن اتهامه منذ أن تولى منصبه.
وربما يكون الوقت مبكراً الآن لتوقع مدى تأثير هذا المأزق على مكانة وسائل إعلام كبرى مثل «نيويورك تايمز» و«سي.إن.إن» وغيرهما. لكن الملاحظ أن بعض هذه الوسائل شرعت في محاولة تصحيح الخطأ الكبير الذي ارتكبته. فقد أتاحت صحف عدة مساحات لأنصار ترامب الذين احتفوا بالتقرير. كما استضافت المحطات التلفزيونية، التي كانت الأكثر هجوماً على ترامب، بعض مؤيديه، بما فيها شبكة «سي.إن.إن». لكنها لم تقر صراحةً بأنها أخطأت.
وبغض النظر عن مدى قدرة وسائل الإعلام، التي استبقت نتائج التحقيق واتهمت ترامب في وطنيته، على استعادة الثقة فيها، يبدو الخطأ الذي ارتكبته هو الأكبر في تاريخ الإعلام في الولايات المتحدة، لأن الموقف السياسي طغى إلى الحد الذي حال دون أي تفكير في بُعدين مهمين لهذه القضية، أحدهما سياسي والثاني قانوني.
فأما البُعد السياسي فهو أن ترامب لم يكن بحاجة لأي تفاهم، ناهيك عن التواطؤ، مع روسيا لكي تستخدم قدراتها السيبرانية في محاولة التأثير في نتيجة الانتخابات الرئاسية. كانت لدى موسكو مصلحة في السعي إلى هذا التأثير، ليس لأن ترامب يمكن أن يقدم لها منافع سياسية، ولكن لأن رؤيته للعلاقات الدولية تقوم على أن تهديد الصين يفوق خطر روسيا.
كان الروس الذين حاولوا التأثير في الانتخابات الرئاسية، إذن، مدفوعين بمصلحة قومية لا تتعلق بترامب تحديداً. ولو أن منافسته هيلاري كلينتون هي التي رأت أن خطر روسيا على أميركا أقل من الصين لسعوا إلى التأثير في تلك الانتخابات لمصلحتها. وفي كل الأحوال، لا يستدعي هذا النوع من التأثير، عبر وسائل إلكترونية، أي اتصال مع المرشح المفضل بغض النظر عن شخصه.
أما البُعد القانوني، الذي بدا أكثر وضوحاً منذ أواخر العام الماضي، فهو يتعلق بمؤشرات دالة على أن مولر لا يجد أدلة على تواطؤ ترامب وحملته مع روسيا. وكان ممكناً أن يصل الإعلام الأميركي المعارض لترامب إلى هذا الاستنتاج عبر متابعة أكثر مهنية لمسار التحقيق. لكن الانحياز الشديد حال دون ملاحظة أن التواطؤ مع روسيا لم يكن ضمن التُهم التي وُجهت إلى عدة متهمين بارزين أحالهم مولر إلى المحاكمة. فمثلاً اتُهم مايكل فلين مستشار ترامب الأسبق للأمن القومي، وجورج بابادو بولس مستشار حملته السابق، بالكذب على مكتب التحقيقات الفيدرالي «إف.بي.أي». أما محامي ترامب الشخصي مايكل كوهين فوُجهت ضده تُهم تتعلق بانتهاك القوانين المنظمة للحملات الانتخابية.
كما أن إحالة متهمين إلى المحاكمة تباعاً يعني، عادة، عدم وجود متهم أكبر منهم يمكن توجيه الاتهام إليه. وهذا ما استنتجه كاتب هذه السطور في مقالته المنشورة في «وجهات نظر» في 25 ديسمبر الماضي تحت عنوان «ترامب بعد استقالة ماتيس»، وكتب فيها نصاً أن «تأمل التطورات الراهنة في قضية التدخل الروسي في الانتخابات يزيد احتمال إنهاء التحقيق من دون توجيه اتهام إلى ترامب شخصياً. وتفسير ذلك أن التقليد المتبع في التحقيقات القضائية هو إرجاء محاكمة المتهمين حتى نهاية القضية إذا أراد المحقق الاستعانة بهم في دعم اتهام مَن يعتبره المتهم الأول..».
لكن الإعلام الأميركي المعارض لترامب أغفل مثل ذلك الاستدلال، نتيجة الاستغراق في خصومة أفقدته المهنية والموضوعية. وهذا درس كبير للإعلام بوجه عام: حذار من توجيه اتهامات مُسيسة حتى لا ترتد عليك، فتصير جانياً بدل أن تكون باحثاً عن الحقيقة.