في ظل الإحصائيات التي تقدر إصابة 600 مليون شخص سنوياً، بنوع أو آخر من أنواع الأمراض المنقولة بالغذاء، تشكل هذه الطائفة من الأمراض أحد أهم قضايا الصحة العامة من المنظور الدولي، ليس فقط نتيجة الثمن الإنساني المتجسد في مئات الملايين من الإصابات والتي ينتج عنها مئات الآلاف من الوفيات، وإنما أيضاً على صعيد الكلفة الاقتصادية الفادحة. حجم هذه الكلفة يتضح من حقيقة أن الأمراض المنقولة بالغذاء تكلف اقتصادات الدول منخفضة ومتوسطة الدخل 100 مليار دولار سنوياً على الأقل، وفي 28 من هذه الدول تزيد الخسائر الاقتصادية السنوية على 500 مليون دولار، في بعض من أفقر دول العالم، وذلك وفق دراسة صدرت عن البنك الدولي.
ولا يقتصر الأمر فقط على الدول منخفضة ومتوسطة الدخل، بل أيضاً في أغنى دول العالم، وأكثرها صرامة في تطبيق تدابير وإجراءات السلامة الغذائية، مثل الدول الأوربية والدول الصناعية، والتي تتمتع ببعض من أفضل نظم الرعاية الصحية في العالم. فعلى سبيل المثال، يقدر مركز التحكم في مكافحة الأمراض بالولايات المتحدة، إصابة 48 مليون أميركي سنوياً بأحد أنواع الأمراض المنقولة بالغذاء، تتطلب شدة مرض نحوي 130 ألف منهم الحجز في المستشفيات، ويلقى أكثر من 3 آلاف منهم حتفهم في النهاية. كما لا يختلف الأمر عن ذلك كثيراً في العديد من الدول الأخرى، مثل فرنسا وأستراليا وبريطانيا، وإن كان بمعدلات أقل من الولايات المتحدة.
ومن بين أنواع وأشكال الأمراض المنقولة بالغذاء، تعتبر المجموعة المعروفة بأمراض الإسهال من أكثرها انتشاراً، حيث تصيب أمراض هذه المجموعة 550 مليون شخص سنوياً، يلقى 230 ألفاً منهم حتفهم كل عام. وللأسف، يتحمل الأطفال دون سن الخامسة العبء الأكبر من الأمراض المنقولة بالغذاء، أو نسبة 40 في المئة بالتحديد، حيث يتوفى 125 ألفاً كل عام من أفراد هذه الفئة العمرية، بسبب مرض انتقل إليهم مع غذائهم.
ومما يزيد الطين بلة، التغيراتُ المناخية، والتغيرات الحادثة في قطاع إنتاج وتوزيع الغذاء، وهي التغيرات التي تركت بصمة عميقة على المستهلكين وعلى صناعة الغذاء، وعلى الكوكب برمته، وهي التغيرات التي تتطلب من نظم السلامة الغذائية مجاراة إيقاعها. وخصوصاً أن الغذاء غير الآمن والسليم، والناقل للأمراض، غالباً ما يترك آثاراً سلبية أكبر على الفئات المهمشة والضعيفة في المجتمعات، ويشكل عائقاً وتحدياً أمام جهود الاستدامة والتنمية. فعلى الرغم من تزايد الإدراك بالدور الأساسي والمحوري للسلامة الغذائية في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وفي بلوغ أغراض ومقاصد ما يعرف بعقد الأمم المتحدة للإجراءات والتدابير المتعلقة بالتغذية (UN Decade of Action on Nutrition)، لا زالت الجهود الرامية لتقوية نظم السلامة الغذائية، هشة ومجزئة، ولا زال ما تم تحقيقه دون التطلعات والآمال، وخصوصاً في العديد من الدول النامية.
وبناءً على هذه الخلفية، ستشهد مدينة «جنيف» السويسرية خلال اليومين القادمين، فعاليات المنتدى الدولي للسلامة الغذائية وتجارة الغذاء، تحت رعاية منظمة الأغذية والزراعة «الفاو»، والاتحاد الأفريقي، ومنظمة الصحة العالمية، ومنظمة التجارة الدولية، وبحضور وزراء وممثلين عن حكومات دول العالم المختلفة، بالإضافة إلى واضعي السياسات، وممثلين عن الهيئات والمؤسسات والمنظمات الخيرية والمدنية غير الحكومية. وكنتيجة للعدد الهائل ممن رغبوا في التسجيل لحضور هذا المنتدى، أصدر المنظمون إشعاراً للجميع، بأن قاعة المؤتمرات الرئيسية لن تتسع لهذا العدد الضخم، ولذا فعلى من يرغبون في الحضور، متابعة الجلسات والفعاليات من قاعات أخرى، أو من خلال أجهزة الكمبيوتر الشخصية الخاصة بهم، حيث سيتم بث الفعاليات والمحاضرات بشكل مباشر على الإنترنت.
ويهدف هذا المنتدى لتحقيق هدفين رئيسيين، الأول: تحديد وتعريف الإجراءات والتدابير والاستراتيجيات القادرة على مجابهة التحديات الحالية والمستقبلية للسلامة الغذائية، على المستوى الدولي. وثانياً: حشد الدعم والمساندة من أعلى الدوائر السياسة في مختلف دول العالم، للارتقاء بمستوى نظم السلامة الغذائية ضمن أجندة 2030 للتنمية المستدامة.
ويأتي انعقاد هذا المنتدى بجنيف في أعقاب انعقاد المؤتمر الدولي الأول عن السلامة الغذائية منتصف شهر فبراير الماضي في العاصمة الأثيوبية «أديس أبابا»، واستكمالاً للمناقشات التي أثيرت في ذلك المؤتمر، وخصوصاً تلك المتعلقة بالجوانب التجارية وبالتحديات التي تواجه السلامة الغذائية. حيث حدد المؤتمر الدولي الأول عن السلامة الغذائية حينها، الأولويات التي بمقدورها تفعيل التعاون الدولي في هذا المجال، ودون استثناء أو إقصاء لأي من أعضاء المجتمع الدولي، وهو ما سيمنح الفرصة للمشاركين في سبر أغوار الفرص والتحديات الناشئة عن التغيرات التكنولوجية المتسارعة والمتلاحقة في قطاع إنتاج وتوزيع واستهلاك الأغذية على المستوى الدولي.