إن الفلسفة رسالة وليست مهنة، قضية وليست حرفة. وأستاذ الفلسفة هو الأمين عليها. صحيح أن مهمته هي التعليم، لكن ليس الصنعة بل ممارسة أفعال الفكر وتحليل الواقع.. لا فرق بين المدرج والشارع، بين عالم الأذهان وعالم الأعيان. ليس من المعقول أن يعطي درساً في حقوق الإنسان في الأروقة وتنتهك حقوق الإنسان في المجتمع دون ربط بين هذا وذاك، دون قياس الفارق بين النظرية والواقع، بين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن. ليس من المعقول أن يعطي درساً في منطق أرسطو وأشكال القضايا، وضروب القياس المنتج وغير المنتج.. ولا يكترث لطالبه الموزع بين عقله في الجامعة وقلبه في الشارع. إنه معلم الصنعة وليس شاهد العصر الذي قد يكون شهيداً فيه. في هذه الحالة يكون العلم تعويضاً عن الفعل، والصنعة غطاء لغياب الرسالة، والتخصص الدقيق بديلاً عن العمل العام، وإيثار الأسهل على الأصعب. والجنة محفوفة بالمخاطر.
إن الأستاذ يحمل هموم الفكر والوطن على حد سواء، يقدم العلم ويجذّر المواطنة، فيكون الطالب معه بالعقل والقلب، بدلاً من أن يكون عقله داخل المدرج وقلبه في الشارع والطريق، وحتى يحترم الطالب الأستاذ، ويعلم أنه ليس موظفاً في الجامعة بل صاحب موقف.
لسنا الجيل الذي يخرج منه الفلاسفة. فما زلنا جيل عصر النهضة الأول الذي تعثر بعد مائتي عام ليعود فجر نهضة عربية جديد. ما زال الواقع لدينا مغطى بالأنساق المعرفية والقيمية القديمة. ومازالت الأسئلة الثلاثة التي جعلها كانط شرط التفلسف: ماذا يجب عليّّ أن أعرف؟ ماذا يجب عليّ أن أفعل؟ ماذا يجب عليّ أن آمل؟ ما زالت إجاباتها القديمة مهيمنة؛ ومن ثم فلا سؤال.
وإذا طرح السؤال: هل لدينا فلاسفة؟ فهو سؤال خارج عن سياقه التاريخي. الفلسفة تبدأ بالسؤال، والسؤال يوضع عندما تغيب الإجابة. والإجابات عندنا جاهزة تعطينا وئاماً مع الواقع.
لقد نشأت الفلسفة في الغرب في بدايات العصور الحديثة بعد أن تكسر الغطاء النظري بين القديم والجديد، وثبت أن الأنساق الأرسطية والبطليموسية والكنيسية لا تتفق مع العقل والطبيعة والإنسان والمجتمع. فبدا الواقع عارياً من أي غطاء نظري. وبدأت التساؤلات والإجابات البديلة. فنشأت الأنساق الفلسفية والتيارات الفكرية للإجابة عن هذه التساؤلات. الفيلسوف بهذا المعنى هو صاحب النسق الفلسفي. وليس لدينا فيلسوف بهذا المعنى، صاحب النسق، واضع نظرية في المعرفة، ونظرية في الوجود، ونظرية في القيم.
إنما الفيلسوف لدينا هو المفكر والناقد، وربما المثقف والأديب، صاحب الموقف النقدي من الموروث القديم الذي يحاول التخلص من سيطرته، ورفضه كسلطة للتقليد من أجل إفساح المجال للاجتهاد.
الفيلسوف هو الذي يعيد بناء التراث القديم بحيث يكون أصلح لروح العصر. ويعيد الاختيار بين البدائل.. فما زالت الاختيارات عندنا منذ القرن الخامس الهجري، عصر الغزالي، هي السائدة رغم مرور ألف عام عليها. فيها سقطت دول وقامت أخرى، وانتهت حضارات ونهضت أخرى. وتم اكتشاف العالم الجديد، وسقطت غرناطة، وفتحت القسطنطينية. وسقطت الخلافة، واحتُلت الأمصار، وتحررت البلاد ثم عاد الاستعمار بأشكال جديدة.
الفيلسوف هو الذي يحاول أن ينقل حضارته من مرحلة إلى أخرى، من الإصلاح إلى النهضة، ومن الهيمنة إلى التحرر، ومن التبعية إلى الاستقلال، ومن التجزئة إلى الوحدة، ومن الاحتلال إلى حق تقرير المصير، ومن الظلم الاجتماعي إلى العدالة الاجتماعية، ومن الاغتراب إلى إثبات الهوية، ومن السلبية واللامبالاة والفتور إلى الالتزام والفعل وأخذ المواقف. الفيلسوف هو ابن عصره، والقادر على تشخيص المرحلة التي تمر بها حضارته، والتأثير في أكبر قدر ممكن من الناس، ومخاطبة الخاصة بالقول البرهاني، والمثقفين بالقول الجدلي، والعامة بالقول الخطابي.
والفيلسوف ثانياً هو الذي يتمثل الوافد بعد نقله والتعليق عليه وشرحه وتلخيصه وعرضه والتأليف في موضوعاته، ثم الإبداع فيه.

*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة