خلف كاتدرائية «نوتردام» الباريسية، يوجد متنزه صغير تنمو فيه الأزهار الوردية، وتتسلق الأسوار الحديدية، وتتفتح الزهور لتبدو كبرج الكنيسة من الأرض. ويجلس الأزواج للاستراحة وسط الزحام، ويتوقف الآباء ليلعب أبناؤهم. وعلى الرغم من المكان المحوري الذي يحتله المتنزه، تظل الساحة حول الكنيسة ساكنة وهادئة، وتمثل مكاناً لاستجمام السكان المحليين.
وعندما زرت باريس للمرة الأولى في عام 2004، كان من أجل الانتقال للدراسة الجامعية. وكان ذلك في بداية فصل الربيع، ولم يكن هناك الكثير من السياح بعد. وعلى الرغم من أن شقتي لم تكن أبداً على مقربة من وسط باريس، لكن فضولي كان يدفعني إلى المشي وصولاً إلى المتنزه. ومثل برج إيفل، تعتبر كنيسة نوتردام معلماً باريسياً يظل مطبوعاً في الذاكرة. والآثار المعمارية كهذه تبقى راسخة في هوية المدينة، التي تبقى شامخة رغم كل شيء.
ولهذا كانت مشاهدة كنيسة روتردام تحترق يوم الاثنين الماضي مؤلمة لي بصورة خاصة. وعلى رغم من ذلك، لم تكن كنيسة «السيدة العذراء في باريس» غريبة على الدمار! فخلال عمرها الممتد منذ 800 عام، كان الدمار جزءاً مهماً ومتكرراً في قصتها. ففي سبعينيات القرن الماضي، في أوج الثورة الفرنسية، أعلنت مجموعة من المتمردين المتأثرين بعصر التنوير أن «نوتردام» لم تعد كنيسة، ودمّروا مجموعة الأيقونات المسيحية بداخلها.
وسُلبت «نوتردام» وبلغ بها الخراب مبلغه: فقُطّعت رؤوس التماثيل الدينية، ونُهبت محتوياتها. وظلت الكاتدرائية بعد ذلك، لسنوات طويلة، مجرّد مبنى يستخدم كمخزن، وفي مرحلة ما، لتعتيق الخمور! إلى أن جاء عام 1804، وأعيدت الكاتدرائية إلى الكنيسة الكاثوليكية، وبناء على أمر من نابليون بونابرت، لم يتم ترميم نوتردام فحسب، وإنما باتت مكان تتويجه إمبراطوراً.
وبعد مئتي عام على تتويج نابليون نفسه إمبراطوراً لفرنسا، ذهبت إلى كنيسة نوتردام، وجلست على المقعد الخلفي في الكنيسة للتحضير من أجل اختبار في الفن التاريخي خضعت له في اليوم التالي. وكان ذلك قبل أسابيع قليلة من عيد الفصح. وركّز اختباري في فن العمارة على الكاتدرائية القوطية الموجودة أمامي. فالدعائم المنحنية الطويلة تقف شامخة مثل ظرافات متراصة. وعندما أعيد إنشاء كنيسة نوتردام، كانت مباني قليلة في العالم تتميز بهذه الميزة المبتكرة. وتلك الدعائم الشاهقة مكّنت من رفع الجدران عالياً وإضافة شرفات وردية كبيرة، وهو ما جعل منها الكنيسة التي نعرفها اليوم.
قلّبت صفحات كتابي، واستذكرت الصور بينما كانت تماثيل «الجرغول» و«الكمير» تطل عليّ في الأسفل، عابسة!
وبعد بضعة أشهر فقط من الدراسة، كان من السهل أن أدرك تمام الإدراك كيف ظلت تلك المباني صامدة على مدار قرون، شاهدة على كثير من الأمور المريعة، وأخرى رائعة.
ونجت كاتدرائيتنا الباريسية من قصف الحرب البروسية، والحربين العالميتين. وعلى مدار قرون، شهدت أماكن كثيرة في باريس أعمال عنف بشري من صنع البشر أو بسبب الكوارث الطبيعية. فقد أدى انفجار قنبلة على مقربة من الكنيسة إلى تحطيم نوافذها. وحل الجنود والأكياس الرملية والدبابات محل السياح والسكان المحليين. وكانت الكنيسة شاهدة على شارات الصليب المعكوف النازية على أذرع الجنود الألمان الذين يقفون للحراسة أمام أبوابها. وتضرر سقفها نتيجة البرق والحرائق. ولا ريب، عانت الكنيسة من علامات التعب مع التقدم في العمر. لكنها صمدت رغم ذلك وسط هذا العالم الفوضوي المرتبك. نجت روتردام في الماضي، وهكذا نجت مرة أخرى يوم الاثنين.
لا نزال لا نعرف سبب حريق روتردام، وقد شعرت بالعجز، بينما كانت ألسنة اللهب تقترب من برج الكاتدرائية، وامتدادها إلى سقف الكنيسة ببطء ملتهمة كل شيء في طريقها. وأضاء الحريق عاصمة النور بطريقة مروّعة.
ولا شك أن تلك النيران كانت أسوء قوة مدمّرة عانت منها كاتدرائية نوتردام في تاريخها. وأظهرت التعليقات المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي تنوع الألم، من أولئك الذين كانوا هناك، يشاهدونها بينما كانت قاب قوسين أو أدنى من الدمار، وأولئك الذين كانوا يحلمون بزيارتها، لكنهم يئنون لأنهم لن يعرفوا باريس كما كانت أبداً.
إن باريس مدينة جميلة بدرجة لا يمكن وصفها. وهي بالنسبة لي وطن آخر، وليست مجرد مكان للفنون، أو أنها تبدو مثل رسم أو لوحة فنية. ومثل أي حب حقيقي، لم أقع في حب معالمها الجميلة فقط، وإنما أعشق شخصيتها. وفي كثير من الأوقات، أظلمت عاصمة النور، لكنها لم تمكث أبداً في الظلام طويلاً.
كاتبة أميركية
يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفيس»