افتتح الكرملين مركزاً ثقافياً جديداً وبراقاً في العاصمة الأفغانية. وكانت روسيا قد أقامت في ثمانينيات القرن الماضي المركز الثقافي الأول، وهو «بيت العلوم والثقافة». وحينها كانت قوات الجيش الأحمر تخوض حرباً في البلاد ضد المتشددين المدعومين من الولايات المتحدة. والآن ومع هدوء وتيرة الحرب في أفغانستان، أقامت روسيا البناء من جديد في موقع المبنى السوفييتي السابق نفسه الذي أزالته الجرافات قبل ست سنوات. ويمثل المركز الجديد تجلياً حياً لنفوذ روسيا الجديد في أفغانستان. لكن موسكو ظلت حذرة بشدة من الأوضاع في أفغانستان. فقد افتتح المجمع الروسي في هدوء ومن دون احتفال ومن دون إعلان فيما عدا موقعه الناطق بالروسية على الإنترنت.
ويعتقد كثيرون في كابول أن المبنى الكبير مازال قيد الإنشاء. لكن مسؤولين روس يؤكدون أن الأنشطة الثقافية بدأت عام 2017 لكنها تكتسب زخماً أكبر الآن فحسب. والمركز عرض أفلاماً ونظم حفلات وعروض أزياء، واستقبل وفوداً من المشرعين الروس الزائرين والزعماء الروس المسلمين. والشبان الأفغان يجتمعون مرة في الأسبوع للعب مباراة كرة قدم في الداخل قبل الدخول إلى حمام البخار الساخن على الطراز الروسي. ويرى فيتشسلاف نكراسوف مدير «المركز الروسي للعلوم والثقافة» الجديد، وهو جزء من شبكة مراكز تمولها موسكو لتكون نظيراً للمركز الثقافي الفرنسي أو معهد جوته الألماني، أن بعض الأفغان لديهم وجهة نظر سلبية عن الحرب السوفييتية «لكن معظم الناس يرون أنها كانت سنوات رائعة».
صحيح أن الثقافة الأميركية تسربت إلى أفغانستان عبر أفلام وموسيقى، وهناك عدد كبير من الشباب الأفغاني يتحدثون الإنجليزية بدرجات متفاوتة من الجودة. لكن الولايات المتحدة بعيدة جغرافياً بالفعل عن أفغانستان. بينما روسيا العملاقة تقف إلى شمال البلاد وتأثيرها أكثر وضوحاً. ففي معظم الأوقات نجد نحو 6500 أفغاني في المتوسط يدرسون الروسية في أنحاء أفغانستان، والمركز يساعدهم في تحقيق آمالهم في الحصول على منح دراسية في جامعات روسية. وقدامى المقاتلين في حرب روسيا التي استمرت عقداً في أفغانستان يترددون أيضاً على المركز، وأحياناً يواجهون خصومهم السابقين في ملعب كرة القدم.
وبعد أن جلست روسيا تتفرج على الحرب التي قادتها الولايات المتحدة على مدار السنوات الثماني عشرة الماضية، ها هي روسيا تعيد، الآن، تأكيد وجودها قبل تقليص واشنطن المعتزم لعدد الجنود البالغ عددهم 14 ألف جندي، وهو ما يعلن الرئيس دونالد ترامب أنه سيأتي بعد تحقيق تقدم في أي تسوية سلمية ممكنة. ونشرت موسكو وجوداً عسكرياً على امتداد الحافة الشمالية لأفغانستان، وتلعب دوراً حيوياً في محادثات السلام وتجمع بين «طالبان» ووسطاء السلطة الأفغان في اجتماعات مهمة في العاصمة الروسية في جلسات تسير بموازاة المحادثات الجارية بين الحكومة الأميركية وطالبان.

ونكراسوف الذي يميل إلى المزاح، بشاربه الكث وبذلته السوداء، يبدو كما لو أنه شخص يعرف الجمهور الأفغاني جيداً. فقد عمل في الجيش الأحمر في أفغانستان بين عامي 1982 و1984 وعاد قبل 17 عاماً ليعيش في كابول. ونكراسوف، مثل كثيرين من موظفي السفارة الآخرين، يتكلم بعض اللغة الدارية التي تمثل واحدة من لغات أفغانستان الرئيسة.
وهندسياً، يحكي المركز الجديد همساً عن روح سلفه السوفييتي. فقد كان كثيرون من الأفغان يرون في المركز السابق وسط معالم كابول رمزاً صارخاً للطموح الاستعماري المجهض بعد انسحاب الجيش الأحمر عام 1989. وبعد هذا الانسحاب، ودخول أفغانستان في حرب أهلية، أصبحت قاعة الاجتماعات في العصر السوفييتي التي كان يزينها رسم جداري اشتراكي لرجال ونساء يعدون بمستقبل أفغاني أفضل، مأوى لمتعاطي المخدرات في المدينة. أما في المركز الجديد، فقد وقف «نكراسوف» أمام لوحة كبيرة لفنان أفغاني يظهر فيها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وهو يصافح ترامب الذي يضع قبعة كتب عليها «لنجعل أميركا عظيمة من جديد» ويبدو في الصورة أقصر من الزعيم الروسي على خلاف الواقع.
ويرى «نكراسوف» أن الرئيسين، بوتين وترامب، هما أكبر زعيمين للعالم، وهما وحدهما اللذان يمكنها إحلال السلام في أفغانستان. ويشارك بعض الأفغان الخائفين من الحرب نكراسوف في رؤيته الوردية أملاً في استغلال الماضي كوسيلة لانتقاد الدور الحالي للولايات المتحدة. والجدير بالذكر، أن الحرب السوفييتية ضد ما عرف بـ«المجاهدين» حصدت أرواح ما لا يقل عن مليون أفغاني، و15 ألفاً من جنود الجيش الأحمر، وأرهقت ميزانية موسكو، وعجلت بانهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991. ثم أطيح بعد ذلك بفترة قصيرة بالحكومة الشيوعية الأفغانية، ودخلت البلاد أتون حرب أهلية ضروس، مما مهد الطريق إلى صعود طالبان.
*مراسلة واشنطن بوست في موسكو
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»