تمتد الثورة الصناعية الرابعة بتأثيرها العميق إلى الثقافة والمجتمعات والقيم، بل وتعيد تشكيلها في اتجاهات جديدة مختلفة اختلافاً كبيراً عن المراحل السابقة. وإذا كانت التقنية تحلّ على نحو تلقائي في الأعمال والأسواق والموارد والسلع فإنها تمضي في عالم الأفكار والاجتماع والسياسة في اتجاهات أكثر تعقيداً وأصعب توقعاً، وإذا لم تنشئ الدول والمجتمعات استجابات واعية للتحولات التكنولوجية الكبرى فإنها تدفع بنفسها نحو تحديات وصعوبات إضافية قد تلحق بها ضرراً كبيراً إن لم تعصف بها نهائياً، وكما اختفت حضارات ودول ومدن في التحولات الكبرى على المحيطة مدى التاريخ فليس مستبعداً أن تختفي دول ومجتمعات وحضارات قائمة في عالم اليوم.
يعكس مفهوم الثورة الصناعية الرابعة التشكلات الاقتصادية والاجتماعية المصاحبة للتكنولوجيا الجديدة المرتبطة بصناعات واستخدام الحاسوب والاتصالات، والموبايل، والبرمجة المتقدمة والإدراكية، والروبوت، والتكنولوجيا الحيوية، وإنترنت الأشياء، والتفاعل المتقدم بين الإنسان والآلة، والطباعة ثلاثية الأبعاد، وتحليل البيانات الضخمة والخوارزميات المتقدمة، والاستشعار الذكي، وتحديد المواقع، والحوسبة السحابية.
ويرتبط بمفهوم الثورة الصناعية الرابعة مجموعة من المفاهيم والمصطلحات، مثل الحوسبة، والمعلوماتية، واقتصاد المعرفة و«الشبكية» وما بعد الصناعة، وجميعها مصطلحات تؤشر إلى التحولات الاقتصادية والاجتماعية المصاحبة لتقنيات الحوسبة والاتصالات، وقد يكون مفهوم «الشبكية» تعبيراً عن تفاعل الحوسبة مع الاتصالات الأفضل وصفاً لهذه المنظومة التقنية الاقتصادية الاجتماعية.
تؤشر الحوسبة إلى استخدام الحاسوب والبرمجة في الأعمال المختلفة لتشارك الإنسان وتحل محله، وتؤشر «الشبكية» إلى المزاوجة بين الحاسوب وشبكات الاتصال لتتحول الشبكات إلى مجال واسع للإعلام والعمل والتأثير. وفي ذلك نشأت أعمال ومهارات جديدة، واختفت أعمال ومهن وأسواق كثيرة كانت سائدة ومهمة، وتغيرت طبيعة أعمال كثيرة، كما نشأت طبقات وانحسرت أخرى.
وكما أن الجديد لا يولد من جديد، فإن الأفكار والتوقعات الجديدة أيضاً ليست مستقلة عن السياق السابق، ولكن القديم لا يساعد إلا قليلاً في إدراك وتوقع الاستجابات والتحولات الناشئة بفعل الثورة الجديدة، ذلك أنها تبدو في جدتها وضخامتها وكأنها مفاجأة هبطت على العالم أو أنها مستقلة عن المرحلة السابقة استقلالاً كبيراً يجعل الربط بينهما في التحليل والاستنتاج لا يفيد، هكذا تبدو خبراتنا ومفاهيمنا ومهاراتنا المستمدة من مرحلة ما قبل «الشبكية» عرضةً للزوال وعدم الجدوى. وقد تساعدنا إجابات جون كينز وكارل ماركس وآدم سميث وإميل دوركايم وماكس فيبر، .. لكنها ليست كافية، ولسوء أو حسن الحظ، فإن الناس جميعهم اليوم يواجهون التحدّي، وواجب البحث.. ولربما يكون لدى أحدهم، من غير توقع مسبق، إجابة مميزة تساعد العالم.
تزيدُ اليوم حول «الشبكة» أهمية قيم وفضائل اجتماعية، وتصعد في عالم الاقتصاد والاجتماع على نحو مؤثر في السياسات والعلاقات الدولية والوطنية. ومن خلال قدرة الناس على التواصل عبر الشبكة العالمية، ثم المشاركة في المعارف والتواصل والأعمال والتسويق والبيع والشراء، صارت هذه الأسواق والعلاقات الجديدة والاعتمادات والتداخلات المتبادلة تحميها قيم الثقة والإتقان والتسامح والفردية. وفي هذا العالم «الشبكي»، الذي يتحول إلى ساحات عامة وأسواق عملاقة ومدارس وجامعات ومنتديات، بات من الصعب إدارته وتنظيمه وحمايته بغير منظومة الثقة والتسامح. وبقدرة الفرد على العمل والتواصل، فإنه يُنشئ- كفرد مستقل- منظومةً واسعة من الأعمال والعلاقات، ويواجه مسؤوليات جديدة كانت تتحملها وتنظمها السلطات السياسية والمجتمعات.
لقد كانت الفردية ضريبة عصر الصناعة، وتبدو شرّا لا بد منه، لكنها تتحول اليوم في عصر «الشبكة» إلى فضيلة أساسية، ففي هذه المنظومة المستقلة بنسبة كبيرة عن السلطات والمجتمعات لا يمكن الحفاظ على القيم والمصالح الاجتماعية والقوانين والمهارات والمعارف إلا من خلال أفراد فاعلين وقادرين على أن يتحملوا الأعباء والأدوار التي كانت تقوم بها المؤسسات العامة والمجتمعية، وتمتد أيضاً مسؤوليات الأفراد إلى تهيئة الفاعلين الاجتماعيين لأدوارهم المستقبلية ودمجهم في المنظومة الاجتماعية والاقتصادية بالمشاركة الحقيقية مع المجتمعات والمدارس والجامعات والمؤسسات الاجتماعية وربما بدلاً منها.
كيف يستطيع الأفراد أن يحلّوا مكان السلطة والمجتمعات في المسؤولية عن التنظيم الاجتماعي والأخلاقي، وتهيئة الفاعلين الاجتماعيين للقيام بأدوارهم ومسؤولياتهم وامتلاك المهارات والقيم والمعارف التي يحتاجونها لإدارة شؤونهم ومصالحهم وعلاقاتهم؟ كيف ستتعامل الأمم مع الثورة الصناعية الرابعة على النحو الذي تواصل عملها في حماية مواردها وقيمها الضرورية للأمم والأفراد والأسواق والتي كانت سائدة في مرحلة مركزية الدولة والمجتمع؟
تحاول كثير من الأمم استيعاب المرحلة بتكريس قيم ومهارات التسامح والإبداع على نحو مؤسسي وشامل، وتحولها إلى موارد أساسية تمكنها من اكتساب المناعة والمؤهلات التي تساعدها في التكيف والاستجابة. وبالطبع فإنها تحديات على قدر من الضخامة والتعقيد تحتاج إلى كثير من البحث والانشغال الشامل، وليست مجرد فكرة عابرة.