في الوقت الذي ما زالت تهزُّ الانتفاضات العربية معظم الأنظمة الجمهورية من تونس إلى مصر فليبيا فاليمن فسوريا وأخيراً الجزائر والسودان، وخلعت عدة رؤساء، يظهر سؤال مؤداه: لماذا بقيت الأنظمة الملكية العربية بمنأىً عن هذه العواصف؟ أسئلة لم تُعالج ولم تُلامس فكر من يُفكّرون وسياسة السياسيين على أنها تحتاج إلى مقاربات جدّية، تنطلق من الوقائع لا من الأيديولوجيات الجاهزة لإدراك مختلف جوانب هذه الظاهرة. فهذه الأنظمة تعتبر محافظة بالمعنى السياسي، فلا شعارات ثورية فيها، ولا استراتيجياتٍ تغييرية ولا طموحات بإقامة امبراطوريات، أو جمهوريات أبعد من حدودها.
من ناحية، فإن معظم الأنظمة الثورية في وطننا العربي، حوّلت حكمها انقلاباتٍ بشعاراتٍ شعبوية عنفية، أي أنظمة انقلابية دموية سُميت ثورية وديكتاتوريات فردية ادعت التكلم باسم شعوبها، فألغت تعددية الأحزاب ودمرت مقومات الدولة (أي أنظمة مضادة للدولة العادلة ولعناصرها) لتختار نظام الحزب الواحد والرأي الواحد والإعلام الواحد.
لكنها حولت حتى الحزب الواحد إلى نوعٍ من المناطقية (رجالٌ متحدّرون من منطقةٍ معينة يحكمون) أو العائلية (حصرت السلطة بأيدي عائلاتها لتختزل كل شيءٍ فيها).
فإلى المنظومة المذهبية: من العلمانية الاشتراكية إلى المذهبية المغلقة. ثم وبعد حروبها على شعوبها تصارعت فيما بينها: «البعث» السوري ضد «البعث» العراقي، الاشتراكية «البعثية» ضد الدول المحافظة، تقسيم السودان ومحاولة تقسيم لبنان...
إنها حاملة الإيديولوجيات الإلغائية (انقلابات متواترة) للتدخل في شؤون غيرها والهيمنة عليها وضرب دساتيرها التي كُنّنت عندها وغُربلت حتى تلاشت.. لا دولة بلا سُلطة لا رجال دولة بل سُلطة أمنية مُخابراتية لا احترام للدستور فيها سوى دستور «القائد الملهم» ليعيش بعد العالم العربي «عصر الخواء» والصمت والخضوع القسري.
ومن لا يعرف أن كل ذلك أفضى بفساده وجشع حُكّامه للإثراء الفاحش وتخريب الاقتصاد وإيقاع الشعوب في الفقر والعوَز. وهذا بالذات ما فجّر غضب الناس الهامشيين والفقراء... لكن مع كل هذه الصراعات بقيت الأنظمة الملكية بمنأى عن كل هذه الأعاصير الشعبية. فأي إجابة تصلح أو تجوز.
نرى من خلال متابعاتنا اللبنانية والعربية أن وراء ذلك أسباباً عديدة:
أولاً: عرفت معظم هذه الأنظمة المحافظة كيف تستفيد من ثرواتها البترولية وسواها في إنماء اقتصادي واجتماعي شامل. أدرك الناس بمجموعهم وفي مختلف المناطق والأرياف ووفر لهم عيشاً كريماً، يلبي متطلباتهم وحاجاتهم. (فالفقر هو أم الثورات).
ثانياً: تمسّكت هذه الأنظمة بعروبة حضارية مفتوحة على مختلف المكونات من أقليات وطوائف في وجه موجاتٍ من التنكر لهذه الأرومة التي عمّقت جذورها وحدتها الوطنية والتاريخية (العروبة عباءة ينضم تحتها الجميع وتكون جزءاً أساسياً في مسار الشعوب العربية).
إنه الاختيار الواضح في مواجهة أصوات ارتفعت تحطّ من شأن العروبة وتتنكر لها زاعمةً جذوراً في التاريخ: الفينيقية بديلٌ من العروبة في لبنان، والفرعونية بديل آخر.. أي أنها إسلامية ولا مسيحية ولا وطنية ولا واقعية ولا حتى تاريخية وتالياً بلا هوية فكرية أو انتمائية اجتماعية.
ثالثاً: اتسمت هذه البلدان بحدٍ ساطع من التسامح والانفتاح على العالم مجّ كل أشكال الانغلاق والانعزال والتعصب والكراهية والعنف. وهي مكونات تؤدي إلى الإرهاب والتي مارستها جمهورية إيران الملالية التي وضعت نُصبَ استراتيجية تدمير الوشائج العربية والتسلل عبر المذهبية إلى عمق البنى الاجتماعية وحتى النخبوية في لبنان واليمن والعراق وسوريا حالمةً بإقامة امبراطورية فارسية مذهبية ضمن ما سمي الهلال الشيعي على حطام العالم العربي.
رابعاً: قامت هذه الدول المحافظة بنهضة مدينية عالية وغير مسبوقة في دبي وأبوظبي والشارقة تتسم بإقامة مدن تعتبر اليوم بدورها الاقتصادي والمعماري والجمالي من أحدث المدن العالمية.
خامساً: تبنت هذه الدول بخطابها الاجتماعي والسياسي والدولي الاعتدال ومجافاة ظواهر القوميات الدينية والإثنية والسياسية واللغوية المتعصبة التي برزت مؤخراً في بعض العالم الغربي كفرنسا والمجر والسويد وإيطاليا. هذا الاعتدال متسامح حول هذه الدول ملاذاً للوافدين والمهاجرين والأقليات لتثري امتزاج التعدد بكل أشكاله (الإمارات نموذجاً).
سادساً: لكن عندما وجدت هذه الدول إنها محاصرة بأعداءٍ عديدين خصوصاً الإيراني لتدميرها وتخريبها وتقسيمها ردت كما يجب أن ترد كدولٍ تحترم عروبتها وتاريخها وسيادتها. إنه حق الدفاع عن الوجود والهوية والدولة والشعب في وجه محاولات أعدائها وخصومها لدك بناها وضرب دورها.