جاء إعلان عمدة مدينة نيويورك «بيل دي بلاسيو» حالة الطوارئ أول أمس، بسبب تفشي وباء محلي من فيروس الحصبة في بعض أحياء مقاطعة بروكلين، مع تحذير المقيمين في تلك الأحياء بضرورة الإسراع في تلقي التطعيم ضد الفيروس أو التعرض لغرامة مالية، ليلقي الضوء مرة أخرى على مرض قديد قدم التاريخ نفسه، يعتقد الكثيرون أنه ينتمي للعصور الغابرة، ليعود مرة أخرى ليطل برأسه القبيح، متسببا في عدد كبير من الإصابات ومن الوفيات حول العالم.
ويأتي إعلان حالة الطوارئ من قبل عمدة نيويورك، ومطالبة جميع المقيمين في تلك الأحياء ممن لم يتلقوا التطعيم سابقا، بتلقي التطعيم خلال 48 ساعة، بعد وقوع 285 حالة إصابة منذ نهاية سبتمبر الماضي، منهم 246 طفلا، وتدهور حالة 21 مصاب لدرجة تطلبت حجزهم في المستشفيات، منهم 5 مصابين يتلقون الرعاية في أقسام العناية المركزة، بسبب خطورة وضعهم الصحي، وهو ما يعتبر أسوأ وباء من فيروس الحصبة تتعرض له المدينة منذ قرابة الثلاثة عقود.
وعلى المنوال نفسه، وقبل أسبوعين فقط، أعلنت أيضاً إحدى مقاطعات ولاية نيويورك (Rockland County) حالة الطوارئ، وأصدرت قراراً بمنع الأطفال غير المطعمين من الوجود في الأماكن العامة، ومعاقبة من يخالفوا هذا الأمر بغرامة مالية قدرها 500 دولار، والسجن لمدة تصل إلى ستة شهور، وذلك بعد تسجيل 153 حالة إصابة، كما شهدت عدة ولايات أخرى وضعاً مشابهاً، مثل ولايات واشنطن، وكاليفورنيا، وتكساس، وإلينوي.
والحصبة مرض فيروسي معد، ينتقل عن طريق الرذاذ التنفسي أو الإفرازات التنفسية للمرضى المصابين به. ولا يوجد حتى الآن علاج محدد للحصبة، ويعتمد علاج الحالات التي لا تصاحب بمضاعفات، على الراحة وتلقي السوائل ومخفضات الحرارة. وتبلغ درجة شدة عدوى هذا المرض أنه إذا أصيب به أحد أفراد العائلة، فسرعان ما سيصاب به 90 في المئة من باقي العائلة، إذا لم يكن أفرادها متمتعين بمناعة من خلال تطعيم أو إصابة سابقة. أما على صعيد الوقاية، فيمكن تحقيقها من خلال التطعيم، الذي تبلغ تكلفته دولاراً واحداً فقط في الدول النامية، مما يجعل التطعيم ضد الحصبة من أفضل الاستثمارات في مجال الصحة العامة، بالنظر إلى أرواح الأطفال التي يمكن إنقاذها من خلاله، في ظل تكلفته الزهيدة.
وفي الوقت الذي انخفضت فيه الوفيات الناتجة عن فيروس الحصبة بنسبة 84 في المئة خلال السنوات القليلة الماضية، وبالتحديد من 550 ألف وفاة عام 2000 إلى 90 ألف وفاة فقط عام 2016، لا يزال هذا المرض واسع الانتشار في الدول النامية، وخصوصا في دول قارتي آسيا وأفريقيا، حيث يقدر أن الفيروس يتسبب في عدوى أكثر من 20 مليون شخص سنويا، وتقع الغالبية العظمى من هذه الوفيات في الدول ذات مستوى الدخل الفردي المنخفض، أو التي تعاني من ضعف في البنية الصحية التحتية. ومن وقت لآخر، تتعالى الأصوات المحذرة من أن التقدم الذي أحرز نحو القضاء على فيروس الحصبة خلال الأعوام الماضية، قد توقف وأصابه الشلل، وربما حتى بدأت خطواته في التراجع والتقهقر، ويأتي هذا التحذير المتشائم في أعقاب نتائج الدراسات والإحصائيات التي تظهر ارتفاع عدد الوفيات الناتجة عن فيروس الحصبة.
ففي الولايات المتحدة، تشهد حالات الإصابات والوفيات تزايداً مضطرداً منذ عام 2000، وهو العام الذي أعلن فيه رسمياً أنه تم القضاء على المرض. وعلى المنوال نفسه، تشهد العديد من الدول الأخرى وضعا مماثلًا، مثل المكسيك، وفرنسا، ومدغشقر، وخصوصاً بين الفئات وفي المناطق التي تنخفض فيها نسبة التغطية التطعيمية للأفراد. وحسب ما أعلنته منظمة «اليونيسيف» تشهد 98 دولة حول العالم تزايداً في معدلات الإصابة بالحصبة عاماً بعد عام، ففي 2017 فقط زادت معدلات الإصابة بنسبة 31 في المئة عن العام الذي سبقه، مما نتج عنه أكثر من 110 ألف وفاة خلال عام واحد فقط.
ورغم أن منظمة الصحة العالمية لم تعلن بعد أن الحصبة طارئ صحي عالمي، وتستهدف فقط القضاء عليه في خمسة مناطق جغرافية بحلول عام 2020، إلا أنه إذا ما استمر الوضع كما هو عليه حالياًَ، وتزايدت معدلات الإصابات والوفيات، فربما قد تضطر المنظمة الدولية لاتخاذ مثل هذا الإجراء، وخصوصا إذا استرجعنا التاريخ المأساوي للجنس البشري مع هذا الفيروس العنيد، والذي كان يقتل أكثر من نصف مليون إنسان سنوياً قبل أقل من عقدين.
*كاتب متخصص في الشؤون العلمية.