في مقال للكاتب السعودي المرموق الصديق تركي الدخيل حول شعار التنوير الذي صاغه كانط بشعار «استخدم بشجاعة عقلك» (الاتحاد 5 مارس) إشارة مهمة إلى الحاجة إلى إعادة الاعتبار للتراث العقلاني في الإسلام كما صاغه فلاسفة ومفكرو العصور الوسطى الإسلامية. ولقد أطلق الفيلسوف الألماني «ليو شتراوس» على هذا التراث مقولة «التنوير الوسيط» في مقابل «التنوير الراديكالي» الأوروبي في العصور الحديثة الذي بدأ مع سبينوزا الذي تنكر حسب شتراوس لتركة الفيلسوف اليهودي «ابن ميمون» الذي ينتمي لحركية التنوير الوسيط المتشكلة من الفلسفتين العربية واليهودية (من الفارابي إلى ابن رشد وتلميذه ابن ميمون).
التنوير الوسيط يشترك مع التنوير الحديث في الثوابت المرجعية الأساسية من استخدام عمومي للعقل ومحاربة التعصب والتطرف والانفتاح على الفكر الإنساني الكوني، وأن اختلف معه في معايير الوعي الذاتي المؤسسة لمقاييس الشرعية السياسية والمدنية الراهنة. وبغض النظر عن النقاش الفلسفي القديم حول طبيعة مشروع الأنوار في نسخه المتباينة (التنوير الإسكتلندي المتمحور حول الإصلاح السياسي التوافقي والتنوير الألماني المرتكز حول الإصلاح الديني والتنوير الفرنسي المتجه للثورة والقطيعة مع الماضي)، فإنه من البديهي أن نقد التنوير يعود إلى عصر الأنوار نفسه مع «روسو» ومفكري الحركة الرومانسية في القرن التاسع عشر، الذين نبهوا إلى أن ديناميكية التحرر العقلاني الذاتي تقوم على وهم الإنسان المجرد من هويته الجماعية وموروثه القيمي، كما تقوم على وهم الدولة الإجرائية المحايدة تجاه التصورات الجوهرية للخير الجماعي.
ما يميز التنوير الوسيط هو صدوره عن الإشكالية اللاهوتية القانونية التي اعتبر شتراوس أنها تميز الفلسفة الإسلامية واليهودية، أي علاقة الشرع بالعقل التي لا يوجد لها أثر في اللاهوت المسيحي الذي لا يعرف موضوع «الشريعة» لخلو الدين المسيحي من مدونة قانونية تفصيلية ولذا اتجه أساساً إلى فكرة الإيمان الذاتي (إيمان الضمير والوعي) وأسس للفصل الحديث بين أحكام الواقع وأحكام القيمة.
ومن هنا كان التنوير الوسيط قائماً على التصور الأخلاقي للأحكام الشرعية من حيث هي مقاصد إنسانية عليا وضوابط للسلوك الفردي والجماعي لا قوانين إجرائية بالمفهوم الحديث، وعلى البحث في الفلسفة من حيث هي خطاب برهاني إنساني وكوني عن المضامين العقلية الجوهرية للدين.
على عكس التنوير الراديكالي الذي قام على تحويل الدين إلى دائرة الاعتقاد الفردي الخاص وإخراجه من المجال العمومي المشترك، اتجه التنوير الوسيط إلى اعتبار الدين سياجاً قيمياً صلباً للاجتماع المدني، بما يعني رفض الدولة الدينية العقدية التي تبنتها بعض الطوائف الإسلامية في تصورها لإمامة جامعة بين السلطتين الدينية والسياسية. أن هذه المفاهيم التنويرية التي نجدها لدى الفارابي في تصوره لعلاقة الملة بالفلسفة، ولدى ابن رشد في تصوره لعلاقة الحكمة بالشرع...تستدعي اليوم إعادة الاعتبار من منظور الإشكالات الراهنة للمجتمعات المسلمة.
فإذا كان من نافل القول إنه لا بديل اليوم عن الدولة الوطنية الحديثة في مرتكزاتها الشرعية القانونية ونظام حكامتها الإدارية البيروقراطية، ولا معنى للحفاظ على المدونة الفلسفية الكلاسيكية التي تغيرت بنياتها الكوسمولوجية والنظرية مع الظاهرة العلمية الحديثة، إلا أن ديناميكية التنوير الوسيط قابلة للاستئناف في مرجعياتها الأساسية انسجاماً مع منطق السردية الطويلة التي شكلتها كما هو شأن التنوير الليبرالي الحديث الذي لا يمكن فصله عن الاعتبارات والنقاشات اللاهوتية المسيحية الوسيطة، وإن كان بمعنى آخر في قطيعة معها.
لقد ظهرت في السنوات الأخيرة مقاربات جديدة لتأصيل مفاهيم المواطنة الشاملة والتعددية السياسية والفكرية والتسامح الديني من منطلقات مرجعية إصلاحية وتحديثية، هي في عمقها استئناف واضح لديناميكية التنوير الإسلامي التي أشرنا إليها.
الدرس الأساس المشترك بين حركيتي التنوير الوسيط والحديث هو مبدأ ترجمة المضامين الدينية بلغة العقل العمومي، أي تجاوز الصراع الوهمي بين الدين والعقل بالنظر للدين في مقاصده وغاياته الإنسانية ومنح القيم الكونية الإنسانية دعامة دينية مقدسة تخرجها من التجاذبات الأيديولوجية وتحصنها من مخاطر جماعات التطرف ودعوات التعصب والكراهية.
في كتاباته الأخيرة يدعو الفيلسوف الألماني يورجن هابرماس إلى تجاوز تركة الصراعات الحادة بين التصورات الدينية اللاهوتية للعالم والتصورات العلمانية العقلانية له، معتبراً أن القيم الإنسانية الحديثة ترجع إلى خلفيات دينية بعيدة، ولا معنى لإقصاء الدين من الشأن المشترك، وإن كان لا بد من التزامه بشروط التداول العمومي المستندة للبراهين العقلانية الحرة، وذلك بالضبط هو نقطة الالتقاء مع التنوير الإسلامي الوسيط.
*أستاذ الفلسفة بجامعة نواكشوط