تكاد تقول أحياناً إن هذا العالم الذي انقشع أمامك، ذات زمن، بصفائه، وترحابه، وصباحاته الكثيرة، وبإبداعاته وتنويره ويوتوبياته، وأحلامه الحبلى بغدٍ أجمل، أوصد أبوابه ورماك في نقيضه، لتفقد كل ما صنعك وصاغك من بشرى وثقافة وتسامح وانفتاح وديمقراطية.
تنظر إلى يديك فتراهما فارغتين: انقلب العالم على نفسه ومثُله وقيمه فاسودت آفاقه وانصفقت بواباته وساده صُنّاع الانطوائية والعصبيات والأوبئة العنصرية وصراع الألوان والجلود والعيون. أفً! هكذا اليوم فكل داعية إلى حلم اللقاءات والتسامح بات معزولاً: فكل شيء يتفكك لا في بلدك فحسب بل في عالم صاغ الحضارات والأفكار والتنوير من أوروبا إلى أميركا، إلى ما أدركته الأوبئة.
لكن أحياناً، وفي التماعات كالشهب يبرق حدث من هنا ويضيء مصباح من هناك فتنبهر انبهار من أدركته المعجزة، من فاجأته شمس يسومها الصقيع: هذا ماصدمني أخيراً (وللصدمة أحياناً مجاز الأمل) في فاجعة نيوزيلاندا.
وفاجعتها التي أزهقت خمسين قتيلاً مسلماً أثناء تأديتهم الصلاة في مجزرة المسجدين، فاجعة ليست يتيمة، لقد حاصرتنا الفواجع من أرباب القتل والكراهية والعنف، قُّلنا فاجعة كبقية الفواجع وقد مرت مثيلاتها مرور الحدث اليومي: مجرم متفوق بجلده الأبيض يرتكب جريمة عنصرية (ومتى كان الجلد بلونه تفوقاً؟) طوينا حزننا على حزننا وضممنا أموات تلك الفاجعة إلى موتانا في انتظار فاجعة أخرى.
لكن ومثل معجزة برزت من هذا الركام امرأة نحيلة رقيقة شفافة قد تناسب الأدوار الرومانسية في السينما لكن قوية وصارمة وصرخت لا! نحن عكس التيار مازلنا بشراً تنبض فينا مشاعر الحق والإنسانية والرحمة.
إنها رئيسة وزراء نيوزيلاندا جاسندا أرديرن. انتصبت ليس كما عودتنا رئيسات وزراء سُّمينَ «المرأة الحديد» أو «المرأة الفولاذ» بل المرأة الأخرى. لا المرأة الرجل بل المرأة المرأة بمكتنزاتها. فُجعت بكتْ واست، دانت الجريمة، غيرت قوانين بيع السلاح، صرخت فاجتمع وراءَها شعبها الذي يشبهها مستنكراً، مديناً، متعاطفاً مع أهالي الضحايا: وضعوا الزهور والورود في مكان الجريمة. بكوا بكاء زعيمتهم. إنها لحظات استثنائية افتقدناها عند أهل التنوير والتقدم والتطور وجماهيرهم الغارقة في نشوة الانتقام والحقد، انفتحت صدورنا وأدمعت عيوننا لكن حزناً وفرحاً وتنهدنا: لم يمت العالم بعد، لم يختنق في غرائزه المتحجرة ولا في نوازعه القاتلة، فنحن أمام واحة فريدة.
وقبل أسابيع من هذا الحدث بتراجيدياته تصدّر مشهد آخر لايقل عنه روعاً: زيارة البابا فرنسيس إلى أبوظبي. بابا الفقراء والمشردين واللاجئين والمهاجرين يزور أول بلد خليجي. مفاجأة؟ نعم لكن المفاجأة الأخرى التي كادت تصدمنا (وللصدمة أحياناً مجاز الأمل) أننا والعالم اكتشفنا من جديد أبوظبي. فهي ليست مجرد نهضة حداثية عمرانية واقتصادية بل إنها أيضاً واحة من واحات الانفتاح والتعاطف والتعايش بين مئتي جنسية: أربعون كنيسة في بلد إسلامي وغمار كثير من الألوان والأعراق والأديان تعدادها أكثر من مليونين تتعايش وتعمل في ظل سلطة راعية وقوانين نافذة وتسامح مبين.
إنها بلد مسلم بسواده يلقن العالم الحر وغيره معاني السلام وانفتاح السبل بين الحضارات والثقافات والشعوب. وهذا بالذات يدحض أفكاراً ونوازع جاهزة ركبت تركيباً تصور الإسلام بملياره وتاريخه وجغرافيته إرهابياً حتى وصل الأمر ببعض هؤلاء اعتبار أن المسلمين كلهم متساوون في التعصب والترهيب ك«داعش» و«القاعدة». ماذا يقول هؤلاء العميان في أوروبا وغيرها حيث يضطهد كل مسلم وكل تابع إلى أقلية أو لون، ويتهم كل مهاجر بغزو بلدان التنوير من فرنسا إلى المجر إلى إيطاليا إلى السويد... عندما يكتشف واقع الإسلام المتسامح في أبو ظبي. فالذي ضاقت صدورهم في بلاد النهضة من كل مهاجر ماذا تراهم يقولون عندما يجدون أن في أبوظبي مليوني مهاجر من مئتي جنسية؟ وكيف يعالجون «فوبيا الإسلام» والغرباء الآخرين عندما يرون البابا يبارك هذا البلد بشعبه والقيمين عليه. يبارك كل الموجودين في أبوظبي. يبارك تعايشهم وتمازجهم وتطبعهم في ظل حماية رحبة وقوانين عادلة تتعاطى بقانون المساواة بينهم. إنها البلاد – الملجأ، بل كأنها من الواحات النادرة في عالم كثرت مستنقعاته النتنة وأعراضه المرضية وأشكال عدواه من كراهية وتعصب. نيوزيلاندا وأبوظبي لؤلؤتان تلمعان على حاضر متسع ومستقبل واعد. وإذا كان من اختيار لشخصية العام 2019 فنيوزيلندا وأبوظبي تستحقان أن تكونا لؤلؤتي هذا العالم.
لؤلؤتي السلام بامتياز!