يصعب فصل زيارة الرئيس اللبناني ميشال عون إلى موسكو عن زيارة سبقتها، إنها زيارة مايك بومبيو إلى لبنان، والتصريحات التي أطلقها في بيروت وأثارت لدى اللبنانيين المناهضين لـ«حزب الله» عدداً من المشاعر المتضاربة. فكلام وزير خارجية الولايات المتحدة جاء غير مسبوق في حدّته حيال إيران و«حزب الله»، وهو ما طرحَ على اللبنانيين، رسميين وغير رسميين، خيارات حاسمة وصعبة لم يتوقعوا من قبل أنها ستُطرح عليهم.
هذا ما بدا مُفرحاً، إذ أشاع لدى كثيرين جواً مفاده أن اللبنانيين ليسوا متروكين وحدهم في مواجهة طهران وحزبها. إلا أنه، من جهة أخرى، أشاع جواً من القلق حيال مستقبل قد يكون مطلوباً من الجميع دفع كُلَفِه وتضحياته ونتائج عقوباته الباهظة. وهذا فضلاً عن شعور لبنانيّ واسع بالعجز حيال حزب هو أقوى عسكرياً من الدولة اللبنانية وجيشها، وهو متشعب ومتجذر في مفاصل السياسة والاجتماع اللبنانيين، من خلال حضوره في المؤسسات السياسية والاقتصادية والتعليمية وسواها.
هكذا بدا الرد اللبناني الرسمي، على تعدد أصواته واختلاف مصادره، مأزوماً ومصاباً بالحرج: كيف التوفيق بين «صداقة» الولايات المتحدة وبين المضي في التعامل مع «حزب الله» كطرف «سياسي» يشارك في السلطة؟ واستطراداً: كيف الحفاظ على «الاستقرار» الذي تحرص عليه الولايات المتحدة؟ فيما يتهدد ذاك الاستقرارَ إخراج الحزب من دوائر القرار، وهو عملياً ما تطالب به واشنطن.
هكذا قرر الرئيس عون، مباشرة بعد مغادرة بومبيو بيروت، التوجه إلى موسكو التي وافق لبنان على «خطّتها» لإعادة النازحين السوريين، مفعّلاً الزيارة المقررة قبلاً والمؤجلة التنفيذ. فعون وتياره، اللذان يربطهما «تفاهم» مع «حزب الله»، هما الأكثر حرجاً بزيارة بومبيو ومطالبها، وقد زاد في هذا الحرج أمر آخر هو تقديم الإدارة الأميركية «هدية» أخرى لرئيس حكومة الدولة العبرية بنيامين نتنياهو تتعلق بهضبة الجولان السوري المحتلة (وهذا بعد «هدية» القدس كعاصمة لإسرائيل). هكذا بات من السهل على كثيرين أن يفسروا موقف بومبيو من إيران على النحو التالي: إن هدفه ليس مساعدة لبنان على التحرر من نفوذها ونفوذ حزبها المحلي، بل توفير ضمانات أخرى لأمن إسرائيل الإقليمي. وهذا أمر تنصّل منه اللبنانيون المناوئون لـ«حزب الله» ممن لا يريدون أن يُحسَب عليهم، فكيف سيكون حال المتفاهمين مع الحزب المذكور؟
وفوق ذلك كله، هناك الخوف الذي تعزّزه تجارب كثيرة في لبنان، وفي عموم المنطقة، من أن الولايات المتحدة قد تتخلى في أية لحظة عن حلفائها، وأن هذا التخلي غالباً ما يحدث بعد توريطهم بمواقف أو ممارسات لا يملكون أدوات المضي فيها حتى النهاية، سيما إذا اتخذت شكلاً عنفياً. ومخاوف كهذه لن تفعل إدارة ترامب تحديداً غير مفاقمتها، تبعاً للمزاجية التي بات يُعرف بها الرئيس الأميركي الحالي، فضلاً عما هو معروف عن عدم اكتراثه لا بما يجري في المنطقة (ما خلا ضمان الأمن الإسرائيلي)، ولا بالاعتبارات الاستراتيجية الأعرض لمصالح بلده في الشرق الأوسط.
وفي هذه الغضون يتعين التنبيه إلى ما قد يفعله «حزب الله» وإيران. فالطرفان -وهما بالأحرى طرف واحد- يواجهان اليوم وضعاً معقداً ومُحبطاً. ذالك أن الانتصار العسكري الذي تحقق لهما في سوريا قد تستحيل ترجمته انتصاراً سياسياً لأسباب عدة تتقدمها العقوبات الأميركية التي اعترف أمين عام «حزب الله» نفسه بآثارها. وهذا ناهيك عن القيود التي يفرضها تركيب الواقع اللبنانيّ نفسه بتعدده الطائفي وصلاته التقليدية، السياسية والاقتصادية والثقافية، بالغرب. ولئن بقي رد إيران وحزبها على وضع كهذا مجهولاً، فإن أسوأ الاحتمالات تبقى واردة بما فيها الهرب إلى حرب مدمرة أخرى على الجبهة الجنوبية.
وفي التحليل الأخير فإن ما يعنيه هذا كله أن اللبنانيين أمام خيارات أحلاها مُرّ: لا هم يستطيعون تحمل «حزب الله» ولا هم يستطيعون صده والتصدي له. في هذا المناخ يتبدى أن «العلاقة المميزة» بموسكو قد تنوّع الخيارات الخارجية اللبنانية، وقد تساعد بيروت على تجنب المواجهات الصعبة وغير المرغوبة.

*كاتب ومحلل سياسي -لندن