الجميع يعلنون أن الريف الأميركي ينهار. لكني دأبت على الذهاب إلى مناطق أكثر تماسكاً أخلاقياً والتزاماً اجتماعياً من المناطق الحضرية المنتعشة. وزياراتي تلك تطرح السؤال نفسه: كيف يمكننا نشر عقلية المجتمع المدني التي لديهم بوفرة؟ على سبيل المثال، قضيت الأيام القليلة الماضية بولاية نبراسكا، في بلدات مثل مكوك وجراند ايلاند. وهذه المناطق ليست غنية. وفي مدارس كثيرة هناك، يحصل 50% من التلاميذ على وجبات غداء مجانية أو مخفضة الثمن. لكن ليس لديهم الأمراض المرتبطة بالفقر.
نبراسكا تحتل مرتبة سادس أدنى معدل بطالة بين الولايات الخمسين. وتحتل المرتبة الثانية عشرة في أطول متوسط عمر صحي. وبعض المدارس العليا تخرج 98% من طلابها. وتحتل الولاية المرتبة السابعة بين الولايات في البناء الأسري المتماسك. ومعدل الجريمة فيه منخفض نسبياً. وكثيرون من الناس فيها يتركون منازلهم وسياراتهم من دون غلقها. وتذكر امرأة ممن قابلتهم أنها عادت إلى المنزل لتجد مصابيح غرفة النوم مضاءةً. واعتقدتْ أن زوجها عاد مبكراً. لكنه لم يكن الزوج بل السباك. فقد أشارت، وهي في المقهى، إلى أن صرف الحوض به انسداد، لذا حين كان السباك يقوم بجولة في المنطقة دخل المنزل وأراد إصلاح صرف الحوض.
وحين تحتاج إلى إصلاح سيارتها فإنها تترك شيكاً مصرفياً فارغاً على المقعد الأمامي للسيارة ويأتي فني الإصلاح حين يستطيع ويقود السيارة إلى مرآبه ويقوم بالعمل ثم يدون في الشيك المقابل الذي يريد.
وتحتل نبراسكا المرتبة الثامنة في البلاد من حيث «رأس المال الاجتماعي». فبلدة مكوك يقطنها 7700 نسمة فقط، لكن بها نادي روتاري، ونادي 4-أتش، وجماعة لمزارعي المستقبل، ومهرجان للموسيقى، ومهرجان لحكي القصص، وفرع من مؤسسة مجتمع نبراسكا، وكنائس ومكتبات ومتاحف، وسينيرتس (وهو مطعم ومقهى حائز جائزة جيمس بيرد ويلتقي فيه الرجال المتقاعدون ويدردشون). وإذا أساء أحد المراهقين التصرف، يكون الآباء قد علموا بهذا مع عودته إلى المنزل.
هناك عدد كبير من الناس يخصصون وقتاً للعمل المدني ويضطلعون بعشرات المهام فيما يبدو. فقد عاد جاريد ميهلينكامب من لوس انجلوس إلى مكوك وهو يدير متجراً للطباعة والتصميم. وقبل أن أجتمع معه كان ميهلينكامب قد ذهب، بعد يوم العمل، إلى ثلاثة اجتماعات، من بينها اجتماع في مجلس المدينة التي يعمل بها. ومارك جرام الذي يدير مصرفاً محلياً يقول إنه ينفق 50% من وقته في التطوع في العمل المدني.
لكن يجب الاعتراف بأن الأمور ليست وردية كما تبدو في ظاهرها. فقد أخبرني رجل من نبراسكا قائلاً: «هناك الكثير من الناس لديهم ظروف اقتصادية بائسة، لكنهم يقومون بأمور استثنائية كي يبدون من الطبقة المتوسطة».
بيد أن هؤلاء الأشخاص مخلصون تجاه مشكلاتهم. ففي بعض البلدات يمثل المنحدرون من أميركا اللاتينية نسبة 30% من السكان، وتعاني من مشكلة الاندماج. والأشخاص الأكثر تعليماً من الشباب يغادرون المنطقة. والمجتمع يحاول العثور على وسائل لإغرائهم بالعودة. ويعترف أحد المزارعين بأن هناك عقلية عدائية تهيمن على كثير من أصدقائه. وكبرياؤهم يمنعهم من الاعتراف بالتبعية لأحد. ولسان حالهم يقول: إني مزارع، لي عملي ولك عملك. فالشعور بالوحدة يدعمه الشعور بالخوف والكبرياء.
وهم يحرصون على ألا تمزق «الشرور القومية» الروابط المحلية. فقد أخبرت امرأة من أصل لاتيني أصدقاءها من أصل انجلوساكسوني، أثناء عشاء، والدموع في عينيها، أنها لا تريد أن تفقد من تحبهم بسبب تعليقات مواقع التواصل الاجتماعي، ولذا أنهت حسابها على فيسبوك. وبصفة عامة، بقيت أتساءل عما يجعل أفراد هذا المجتمع نشطاء بهذا القدر على المستوى المدني؟
دعني أطرح هنا بعض التفسيرات. حياة الزراعة تغرس أخلاقيات عمل تنتقل إلى حياة المجتمع. وأفراد هذا المجتمع ينتمون بقوة إلى المكان. ويرى كثيرون أن هدفهم الأساسي في الحياة هو جعل بلدتهم الصغيرة أفضل عند وفاتهم مما كانت عليه عند ميلادهم. وهناك أيضاً 93 مقاطعة في نبراسكا يقل عدد سكان الواحدة منها عن 1000 نسمة. وهذا يعني أن هناك كثيراً من وظائف الحكومة المحلية وليس هناك الكثير من الناس ليملؤوا هذه الوظائف، لذا يتعين على الجميع أن يضطلع بأكثر من دور.
وأكثر الكلمات التي سمعتها هي «النوايا»، خاصة فيما يتعلق بالمجتمع. وكثير من الناس يحاولون ألا يستخدموا أمازون كي يدعموا الأنشطة الاقتصادية المحلية. ولا يلجؤون لأجهزة الشراء الذاتي في المتاجر، كي يدعموا العمال المحليين. وهم متعصبون تقريباً في دعمهم لبرامج الفنون المحلية. ويفكرون دوماً إذا ما كان الذي يقومون به ينفع أم يضر بلدتهم أم لا؟ وحين تخبرهم أن عقلية المجتمع المدني الشامل تلك ليست شائعة، يحملقون فيك بلا تعبير معين، لأنهم لا يستطيعون تخيل شيء آخر.

*كاتب أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»

 Canonical URL: https://www.nytimes.com/2019/03/21/opinion/nebraska-rural-america.html