«برنتون تارنت»، العنصري الأبيض الذي يشتبه في أنه قتل 50 شخصاً على الأقل منتصف الشهر الجاري، في اثنين من مساجد نيوزيلندا، كان ينظر إلى المذبحة التي ارتكبها باعتبارها جزءاً من فنتازيا تاريخية مروعة. فحين كان في طريقه إلى مدينة كاريست تشرتش، كان يستمع إلى أغنية قومي صربي يمجد رادوفان كارادزيتش، زعيم صرب البوسنة الذين سُجن بتهمة ارتكاب الإبادة الجماعية وجرائم حرب عن دوره في الفظاعات ضد مسلمي البوسنة في التسعينيات. كما أظهرت صور أسلحة «تارنت» أنه كتب أسماء عدد من القادة المسيحيين الأوروبيين الذين حاربوا ضد الشرق المسلم. ويبدو أنه سمى أحد أسلحته «توركوفاغوس»، أو «آكل الترك» باللغة اليونانية.
والواقع أنه لا شيء خاصاً يميز هوس «تارنت» بتلك الحقب المظلمة من الصراع بين الأوروبيين والمسلمين. فهذا أندريس بريفيك، الإرهابي النرويجي الذي قتل 77 شخصاً في سلسلة صادمة من الهجمات عام 2011، كان يعتبر نفسه من «فرسان المعبد» الصليبيين، وقد أصدر بياناً ضم مئات الإشارات إلى حروب في البلقان، المنطقة، من الواضح أنه كان يَنظر إليها -هو و«تارنت»- على أنها خط الصدع بين الإسلام والغرب. وحالياً، يعمل المحققون في عدد من البلدان، مثل بلغاريا وكرواتيا وصربيا ورومانيا واليونان، على تقفي طريق الرحلات التي قام بها «تارنت» إلى البلقان بين عامي 2016 و2018. ووفق صحيفة «ذا وول ستريت جورنال»، فإن محطاته شملت ديراً يعود للقرن الـ11 الميلادي صلى فيه ذات يوم أميرٌ من رومانيا من أجل الانتصار على القوات العثمانية، وممراً جبلياً قامت فيه مجموعة من الجنود الروس والبلغاريين بصد جيش تركي أكبر في عام 1877. هذه الرحلات، إلى جانب امتعاضه من رؤية كثير من المسلمين العاديين يعيشون حياتهم في فرنسا. تدعم على ما يبدو رؤيته المتطرفة للعالم.
«إن أوروبا هي المكانُ حيث يُوجَدُ طريقُ تطرُّفِه»، هكذا قال مسؤول رفيع في محاربة الإرهاب في أستراليا، البلد الذي ينحدر منه تارنت، لـ«وول ستريت جورنال».
والواقع أن تارنت وأمثاله ليسوا مجرد أقلية هامشية. إنهم ينهلون من عالم أكبر بكثير من غضب العنصريين البيض في الغرب، عالم يقوم على اعتقاد أسطوري بأمم متجانسة لا تُقهر. إنه خطاب سياسي متداول بين اليمين المتطرف الأوروبي، ويدفع به إلى حد ما زعماء غير ليبراليين، مثل رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان والرئيس الأميركي دونالد ترامب، اللذين يصوّران نفسيهما كبطلين قوميين يحولان دون تدفق جحافل المهاجرين!
وفي هذا الصدد، يكتب الخبير في تاريخ منطقة البلقان إيدين حيدربازيتش: «منذ الثلاثينيات والسياسيون القوميون والفاشيون واليمينيون المتطرفون، من أوروبا الشرقية إلى أميركا اللاتينية، يتعلمون من بعضهم بعضاً ويحلمون بعالم جديد مكون من أمم خالصة»، موضحاً كيف أن كارادزيتش، الذي كان يندد أيضاً بالتهديد الديموغرافي الذي يطرحه المسلمون، كان محبوباً من قبل بريفيك وتارنت.
ولئن كان هؤلاء العنصريون البيض يتشبثون بفكرتهم عن الماضي، فإن خبراء العصور الوسطى والمؤرخين يؤكدون أن مثل هذا الماضي لم يوجد قط. وفي هذا السياق، قال بول سترتفانت، مؤلف كتاب «العصور الوسطى في الخيال الشعبي»، لصحيفة «واشنطن بوست»، «إن فكرة أن (مجتمعات العصور الوسطى) نموذج لبياض ناصع لا تشوبه شائبة فكرة سخيفة وحسب»، مضيفاً قوله: «كان الأمر سيكون مضحكاً لو أنه ذلك الماضي لم يكن فظيعاً».
ولنأخذ على سبيل المثال، معركة فيينا الشهيرة في عام 1683، والتي كُتبت إشارة إليها على سلاح تارنت. فإذا كانت هذه الحرب يتم تذكرها عادة لجهة كيف تم وقف تقدم العثمانيين إلى العالم المسيحي، فإن التاريخ الحقيقي للحملة أكثر تعقيداً من ذلك. فالإمبراطورية العثمانية –وهي نفسها كيان سياسي واسع ومتعدد الأعراق– كانت تتآمر مع الملك الفرنسي الكاثوليكي، وزحفُ جنودها على المدينة النمساوية إنما سرّعه النبيلُ البروتستانتي المجري إمر ثوكولي الذي سار تحت الراية العثمانية، بفأس لضرب الهابسبورغ الكاثوليك في فيينا. كما تلقى العثمانيون الدعم من القوزاق (اليوم في وسط أوكرانيا)، والذين اعتبروهم وقتئذ حلفاء مفيدين ضد البولنديين والروس المنافسين.
وعلى الجانب الآخر، كانت الجيوش البولندية التي هبّت لنجدة فيينا تضم فصيلاً مهماً للغاية من الفرسان التتار ساعد على قلب مجرى المعركة ضد العثمانيين. وكانوا مسلمين سنة. وفي هذا الإطار، كتب المؤرخ داغ هربجورنسرود: «كانت معركة فيينا دراما متعددةَ الثقافات، ومثالاً على منعطفات معقدة ومتناقضة للتاريخ الأوروبي»، مضيفاً: «لم يكن ثمة أبداً شيء اسمه جيوش أوروبا المسيحية الموحدة».
وفي كتابه الصادر في 2009 «دينان اثنان وراية واحدة.. عندما سار المسلمون مع المسيحيين عبر ساحات القتال الأوروبية»، اعتبر الأكاديمي البريطاني إيان ألموند أن النظر إلى مثل هذه الحروب القديمة نظرة ثنائية اختزالية، كما يفعل القوميون الغربيون اليوم، إنما ينم عن جهل بالتاريخ. ويحاجج بأن مخطط صراع الحضارات لا يفعل شيئاً لوصف «الشبكة المعقدة جداً لتحول علاقات القوة، والتحالفات الإقطاعية، والتعاطفات الإثنية، والأحقاد التاريخية. وكتب ألموند يقول: «اليوم، يبدو أن لدى الكلمات من قبيل (الإسلام) و(أوروبا) كل صفات الماء والزيت». غير أن «الواقع هو أنه في تاريخ أوروبا تقاسم المسلمون والمسيحيون، ولمئات السنين، ثقافات مشتركة، وتحدثوا لغات مشتركة، ولم يكونوا بالضرورة ينظرون إلى بعضهم بعضاً باعتبارهم الغرباء أو الآخرين».

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»