إذا كانت الحضارة الإسلامية وسطاً بين الشرق والغرب، فقد استطاعت الحضارة الشرقية الإفلات من هذا الإشكال بطابعها العملي: الشنتوية عبر عبادة الإمبراطور في اليابان، والكونفوشوسية القائمة على تنظيم علاقات الفرد بالآخرين في الأسرة والمجتمع في الصين، والبوذية الساعية لاكتساب القدرة على السيطرة على الأهواء والانفعالات.. وديانات فارس المانوية والزرادشتية، والنزعات الأخلاقية العملية من أجل انتصار الخير على الشر، والنور على الظلمة. ولا توجد نظرية مسبقة للفن أو الصناعة في اليابان، بل هناك ممارسات عملية واتحاد بالطبيعة، وإحساس بالجمال. حيث الإبداع عملية آنية وليس تطبيقاً لنظرية مسبقة في الجمال. لذلك غابت الأخرويات في الديانات الشرقية، وخلت من عالم لا مرئي يُضحي في سبيله بالعالم المرئي. لا يوجد إلا العالم المرئي، والإنسان جزء منه ويعيش فيه. يتحد معه ويشعر به. فالطبيعة خير معلم.
وإذا كانت الحضارة الغربية، قديمة ووسيطة وحديثة، يونانية ومسيحية، حديثة معاصرة.. فقد بدأت في نسختها اليونانية السابقة على سقراط بنزعة عملية تحت أثر الشرق القديم في النحلة الأورفية التي ارتبطت بالأساطير وبمقاومة الموت. والأساطير اليونانية السابقة على الفلسفة (وأحد مصادرها) كلها صراعات بين الآلهة والبشر أو بين الآلهة والآلهة أو بين البشر والبشر.. وأوليس رمزها. فالأسطورة سابقة على الفلسفة. والأسطورة صياغة خيالية لأفعال الأبطال وصراعات الشعوب.
ومنذ أن وعى سقراط أن «العلم فضيلة والجهل رذيلة»، بدأت أولوية العمل على النظر. فالعلم ليس بحثاً نظرياً مجرداً بل هو سلوك عملي. وإن المعرفة النظرية بماهيات الأشياء إنما تأتي عن طريق الحوار القائم على التهكم والتوليد، والحديث مع الناس في الأسواق، والمشاركة في تجارب الحياة اليومية.. رغم نقده للسوفسطائيين الذين لا يريدون البحث عن المعاني المجردة.
والفلسفة عند أفلاطون هي تعلم الموت، أي القدرة على الزهد في الدنيا من أجل معرفة الحقيقة، والتحول من الدنيا إلى الآخرة طبقاً لأسطورة الكهف المعروفة. فالأخلاق شرط المعرفة، والعمل أساس النظر. بل إن أفلاطون فيلسوف عملي تربوي في «الجمهورية»، يريد تأسيس المدينة الفاضلة، والانتقال من النظر إلى العمل، ومن التأمل إلى الممارسة، ومن الكهف إلى الدولة.. كان فيلسوفاً ورجل دولة.
و«الإرادة الخيرة» عند أرسطو، ثم بعد ذلك عند كانط، توجُّه عملي. فهي إرادة طيبة، لأن الطبيعة خيرة كما قال روسو فيما بعد. وقد أثرت «الأخلاق إلى نيقوماخوس» في البشرية قدر تأثير المنطق.
وبعد نسق أرسطو، هذا الصرح الشامخ للمنطق والطبيعة وما بعد الطبيعة، تحولت الفلسفة اليونانية إلى مدارس خلقية عملية كالرواقية والإبيقورية، تجعل الفلسفة أسلوب حياة حتى ولو كانت على طرفي نقيض؛ الزهد في الدنيا أو التكالب عليها. فالتطور الطبيعي للفكر من النظر إلى العمل، ومن التأمل إلى الممارسة.
وفي العصور الوسطى قامت العقائد المسيحية كلها على القنوط والخلاص؛ غواية الخروج من الجنة والخلاص بالمسيح. فالمسائل النظرية عن طبيعة السيد المسيح إنما أتت بعد المسائل العملية. وقد ظهر في نشأة المسيحية تياران في الصلة بين النظر والعمل، تيار يعقوب الحواري كاتب رسالتين في العهد الجديد في آية مشهورة له: «ليس المهم أن تقول إلهي إلهي، ولكن المهم من يطبق كلامه في العمل». وتيار بولس الذي تحول إلى المسيحية بعد صعود المسيح إلى السماء، وكان من كبار مضطهدي أنصاره وظهور المسيح له وهو في طريقه إلى دمشق. وهو تيار لاهوتي فقهي نظري، نظراً لأن بولس كان حبراً يهوديا من مدرسة الجميّل المشهورة بالتأويل. حوّل بولس كل خصائص التوراة إلى صفات للمسيح، وحول المسيحية الأخلاقية العملية عند متى ومرقص إلى مسيحية لاهوتية نظرية مثل مسيحية يوحنا. فبولس هو المسؤول عن تحول المسيحية الأخلاقية العملية إلى مسيحية لاهوتية نظرية. وهو ما لاحظه ابن حزم أيضاً في «الفصل»، ثم رينان بعد ذلك في «مصادر المسيحية» خاصة الجزء فصله حول «بولس».

*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة