كان أول لقاء لي في أميركا مع عربة الأمتعة. ففي صيف 1992، عندما وصلت إلى مطار كنيدي، كنت أحمل معي حقيبة سفر مليئة بالكتب وثقيلة للغاية، وبدأت أتساءل ما إذا كان بوسعي الوصول بالحقيبة إلى مبنى الركاب الذي ستغادر منه الرحلة المتجهة إلى كاليفورنيا. ثم سمعت صوتاً من خلفي يقول «هل تريدين مساعدة؟» كان هذا رجلاً في منتصف العمر يرتدي قبعة البيسبول، والذي التقط حقيبتي وحملها نيابة عني إلى الحافلة. وطوال الطريق إلى البوابة التالية، كان أشخاص آخرون يعرضون مساعدتي. لم يكن هذا مكاناً بلا رحمة على الإطلاق، هكذا فكرت، فقد كان الأميركيون لديهم الرغبة في مساعدة الغرباء.
لم أعد غريبة هنا. ففي خلال العشرين سنة التي أمضيتها منذ أن وصلت إلى مطار كنيدي، كان لدي متسع من الوقت للتعرف على تاريخ البلاد وثقافتها وسياستها. وعلى الرغم من أنني كنت أعتزم استكمال دراساتي العليا في مادة اللغويات ثم أعود إلى المغرب، فإن الصدفة تدخلت: فقد قابلت أميركياً، وتزوجنا. وأصبحت الآن مهاجرة: لا شيء غير عادي بشأن هذا الوضع الذي أتقاسمه مع الملايين من المهاجرين الآخرين، ومع ذلك بالكاد يمر يوم دون أن يذكرني بأن كوني مهاجرة يعني أنني تجاوزت الحد، وأن أرى العالم من وجهتي نظر في آن واحد، وأنني أدركه في ظلال رمادية بدلاً من الأبيض والأسود.
وعندما أسمع المسؤولين المنتخبين يتحدثون عن المهاجرين، يبدو أنهم يتحدثون عن خيال، تم استحضاره لتوضيح نقاط الحديث. فالرئيس يتحدث بغضب عن «المجرمين» و«المغتصبين» و«الإرهابيين»، ثم يستخدمهم كمبرر لبناء الجدار، وفصل العائلات على الحدود، وسجن أطفال اللاجئين في معسكرات من الخيام وحظر دخول الأشخاص القادمين من خمس دول مسلمة. وفي الوقت نفسه، يصور منتقدو الرئيس الوافدين الجدد إلى هذا البلد باعتبارهم يتمتعون بمواهب فردية ويبدؤون مشاريع جديدة، ويخدمون في القوات المسلحة، ويبتكرون تكنولوجيات جديدة، ويترشحون للحصول على عضوية الكونجرس.

ومن خلال طرح المهاجرين كأبطال أو أشرار، يكشف هؤلاء السياسيون أنهم يرون الهجرة كمسألة إنفاذٍ للقانون. بيد أن الحقيقة أكثر تعقيداً بكثير. مثل كل الأنواع الأخرى على هذا الكوكب، يعد البشر من النوع المهاجر. وعندما يجدون أنفسهم فجأة في حاجة ماسّة للسلامة البدنية أو الفرص الاقتصادية، فإنهم يتركون الوطن ويبدؤون في مكان آخر من جديد. وقد كان الأمر دائماً هكذا. وتروي لنا القصص الأولى عن النزوح: هروب النبي موسى من مصر، وهجرة النبي محمد إلى المدينة. ومحاولة إيقاف هذه العملية من خلال بناء الجدران تصيبني بالدهشة، حيث إنها غير فعالة وغير طبيعية – مثل محاولة منع النهر من الجريان.
إنني أستخدم هذا التشبيه عمداً، حيث يتوقع العلماء أنه على مدار العقد المقبل ستزداد حرارة الأرض بواقع 1.5 درجة مئوية، وربما تصل إلى درجتين إذا فشلنا في اتخاذ إجراءات جذرية والقيام بعمل مستدام بشأن التغير المناخي. وحتى في أفضل السيناريوهات، سنشهد أعاصير هائلة وحرائق غابات وجفافاً وغيرها من الأحداث المناخية القاسية. وستكون العواقب وخيمة: فقدان المنازل وسبل العيش وحدوث مجاعة وأمراض وصراعات وتفكك في نهاية المطاف. وبقدر ما يعد التغير المناخي قضية اقتصادية واجتماعية وتتعلق بالسياسة الخارجية، فإن قضية الهجرة هي قضية مناخية.
ويتعين على الأشخاص الذين هم في مأمن من النزوح -على الأقل حالياً – مواجهة الأدوار التي يجب القيام بها في هذه القصة العالمية التي تتكشف. فما مسؤولية الأميركيين تجاه هؤلاء الذين يعيشون في أماكن دمرتها الحروب التي بدأتها أو حرضت عليها الحكومة الأميركية؟ لقد قُتل 59 شخصاً على الأقل في نيوزيلندا، الأسبوع الماضي أثناء صلاة الجمعة من قبل مواطن أبيض أصدر بياناً ينتقد فيه المسلمين والمهاجرين. وبينما يعيد اللاجئون والمهاجرون بناء حياتهم في أماكن جديدة، تتكشف مشاعر عدم التسامح والمقاومة في المجتمعات المضيفة.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»