بالنظر إلى حقيقة أن أمراض القلب والشرايين، سواء شرايين القلب أو شرايين الدماغ، تحتل حالياً رأس قائمة أسباب الوفيات بين أفراد الجنس البشري، يعتبر تحقيق الوقاية الأولية من الإصابة بهذه الطائفة من الأمراض أحد أهم أهداف الطب الحديث. فعلى حسب الإحصاءات والتقديرات، تتسبب أمراض القلب والشرايين في حوالي 30 في المئة من الوفيات –أي واحدة من كل ثلاث وفيات تقريباً– وهو ما يترجم إلى 18 مليون وفاة سنوياً، متفوقة بذلك على طائفتي الأمراض المعدية، والأمراض السرطانية.
وتعتمد الاستراتيجية الهادفة لخفض هذه الوفيات، ومنع المُبكر منها، على خفض وقع وتأثير عوامل الخطر، وهو المفهوم المعروف بالوقاية الأولية. وتتعدد عوامل الخطر تلك لتشمل: التركيبة الوراثية، والعمر، والجنس، والتدخين، وقلة النشاط البدني، ونوعية الغذاء، والسمنة، واضطرابات النوم، وتلوث الهواء، وانخفاض المستوى الاجتماعي الاقتصادي، والطفرات الجينية، وطبيعة وظروف العمل، بما في ذلك المخاطر البدنية مثل التلوث الكيميائي، أو الضغوط النفسية مثل التوتر المزمن.
وبخلاف الوقاية الأولية، تتضمن أيضاً استراتيجية خفض الوفيات، ما يعرف بالوقاية الثانوية، وهي علاج الأمراض والاضطرابات التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بارتفاع معدلات الإصابة بأمراض القلب والشرايين، مثل مرض السكري، وارتفاع ضغط الدم، وارتفاع مستوى الكوليسترول.
وتشهد هذه الأمراض الثلاثة فلسفة جديدة ومفاهيم شمولية مبتكرة، تحت ما أصبح يعرف بـ«إدارة المرض»، وليس فقط علاجه. فعلى صعيد مرض السكري مثلاً، تضمن العدد الأخير من إحدى الدوريات الطبية المتخصصة في أمراض السكري والغدد الصماء، نتائج دراسة مفادها أنه إذا ما التزم مريض السكري بتناول 850 سعرة حرارية فقط في اليوم، ولمدة ثلاثة أشهر، ثم حافظ على ما سيفقده من وزن خلال هذه الفترة (عشرة كيلوجرامات أو أكثر)، فإنه يمكن أن يستغني عن الأدوية والعقاقير التي يستخدمها لعلاج مرضه، لمدة عامين على الأقل.
أما بخصوص ارتفاع ضغط الدم، فصدرت بداية الأسبوع الماضي توصيات جديدة عن المعهد الوطني للصحة والتميز الإكلينيكي ببريطانيا (National Institute for Health and Clinical Excellence)، خفضت من الحد الذي يجب معه البدء بعلاج مرضى ارتفاع ضغط الدم بالأدوية والعقاقير. بمعنى أن التوصيات الحالية، والتي تنص على البدء في علاج المصابين بارتفاع ضغط الدم، (90/140)، أو أعلى، إذا كانت احتمالات إصابتهم بأمراض القلب والشرايين خلال عشر سنوات، تبلغ 20 في المئة، سيتم تعديلها بحيث يتم البدء في العلاج إذا ما كانت احتمالات الإصابة تبلغ 10 في المئة فقط. وهو ما سيعني البدء في علاج مئات الألوف والملايين من مرضى ارتفاع ضغط الدم، والذين كانت إدارة مرضهم سابقاً تعتمد فقط على الإجراءات الأولية البسيطة، مثل خفض الوزن، والامتناع عن التدخين، وممارسة النشاط البدني بقدر أكبر، وخفض محتوى الملح في الطعام، وخفض التوتر اليومي بشكل عام.
والمقصود هنا باحتمالات الإصابة بأمراض القلب والشرايين، هو تقييم أو تقدير (assessment score)، يأخذ في الاعتبار عدة عوامل، مثل السن، والجنس، والوزن، والتاريخ العائلي، والتدخين، وشرب الكحوليات، ليخرج بنسبة مئوية عن (احتمال) إصابة الشخص بأمراض القلب والشرايين خلال عشر سنوات.
وعلى المنوال نفسه، صدرت قبل بضعة أعوام، توصيات طبية بتخفيض مستوى الكوليسترول الذي يجب بدء العلاج عنده، وهو ما أدى حينها إلى مضاعفة أعداد من يفترض تلقيهم للعلاج، بين عشية وضحاها. بل إن بعض الدراسات رجحت أن عقاقير «الستاتين» والشائعة الاستخدام من قبل من يعانون من ارتفاع مستوى الكوليسترول في الدم، ليست مجدية فقط على صعيد الوقاية، بل ربما تكون أيضاً ذات فائدة للأصحاء الذين لم يصابوا سابقاً بالذبحة الصدرية أو السكتة الدماغية، أو حتى لا توجد لديهم عوامل خطر معروف عنها تسببها في زيادة احتمال تصلب الشرايين، مثل ارتفاع ضغط الدم أو داء السكري.
هذه الدراسات وغيرها، جعلت حزمة عقاقير «الستاتين»، التي تتضمن تسعة عقاقير، من أكثر العقاقير استخداماً على الإطلاق، حيث وصلت في وقت ما مبيعات أحد أنواعها إلى أكثر من 12 مليار دولار سنوياً.
ويعتبر أيضاً من ضمن أهم إجراءات الوقاية من أمراض القلب والشرايين، إدراك الشخص لعوامل الخطر سابقة الذكر، وكيفية خفض وقعها وتأثيراتها السلبية على صحته العامة، وعلى صحة قلبه وشرايينه على وجه الخصوص، بالإضافة إلى معرفته التامة بمستويات ضغط الدم الخاصة به، وبأرقام الكوليسترول بأنواعه، ومتابعة التغيرات التي قد تطرأ عليها من خلال الفحص الدوري، وربطها بالتغيرات التي طرأت على نمط حياته، أو على أسلوب ونوع العلاج الذي يستخدمه.