ألقت الزيارة المفاجئة للرئيس السوري بشار الأسد إلى طهران يوم الـ25 من فبراير الماضي، بظلالها على المشهد الإقليمي والدولي والمحلي في إيران، إذ أعلن وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف مساء ذلك اليوم، وعبر حسابه على تطبيق انستغرام، استقالته من منصبه، بسبب عدم إبلاغه بزيارة الأسد، إذ حضر بدلا منه قاسم سليماني قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني. وقال المتحدث باسم الخارجية «بهرام قاسمي»، إن وزير الخارجية قدّم استقالته بسبب عدم إبلاغه بزيارة الرئيس الأسد. أما ظريف نفسه فغرّد وقال: «بعد ظهور صور اجتماعات اليوم (لقاءات الأسد مع خامنئي وروحاني) لم يعد لمحمد جواد ظريف كوزير للخارجية مصداقية حول العالم». لكن روحاني لم يقبل الاستقالة، مما دفع ظريف للتراجع عنها في صباح الـ27 فبراير.
وبمعزلٍ عن مدى جدية الاستقالة والتراجع عنها، فإنها أظهرت استفحال الصراعات الداخلية والاضطرابات السياسيّة التي تشهدها إيران، والتي قد تتصاعد في العامين المتبقيين لحكومة روحاني، لاسيما وقد أشارت مصادر إعلامية إلى أن استقالة ظريف هذه كانت الخامسة خلال العام الماضي والثالثة عشر منذ تسلمه حقيبة الخارجية بعد انتخاب حسن روحاني رئيساً لإيران عام 2013، ثم بقي محتفظاً بها بعد إعادة انتخاب روحاني عام 2017. وأثارت الاستقالة الأخيرة موجة من التساؤلات حول الصراعات الداخلية بين أجنحة السلطة في إيران وانعكاسها على السياسة الخارجية للبلاد.
ومن الضروري فهم تعقيدات المشهد الإيراني لمعرفة الحد الفاصل في رسم السياسة الخارجية بين دور الوزارة ذات الاختصاص والنشاط السياسي المتنامي لفيلق القدس، الذراع الأمنية الخارجية للحرس الثوري الإيراني.
بعد انتصار ثورة الخميني أنشأت الحرس الثوري في عام 1979 بغية حماية النظام الناشئ، حسب المادة (150) من الدستور. وفي عام 1991 قام النظام الإيراني بتجميع كل الوحدات القتالية العاملة خارج إيران تحت تنظيم واحد أوكلت إليه مهمة القتال في الخارج، وأطلق عليه اسم «فيلق القدس»، ليصبح الذراع العسكرية الخارجية للنظام وأداته لتصدير الثورة. وفي عام 1997 تم تعيين قاسم سليماني قائداً للفيلق.
تنطوي عملية صنع السياسة الخارجية لإيران على تعقيدات بالغة، لذا كثيراً ما كانت متضاربةً أو تعطي رسائل متباينة ومتناقضة، إذ يقوم النظام الإيراني على توزيع المهام المتعلقة بالسياسة الخارجية بين مؤسسة الحرس الثوري ومكتب المرشد ووزارة الخارجية. وتتداخل المهام والتخصصات بين هذه الأطراف في إطار لعبة توزيع الأدوار التي يبرع فيها النظام الإيراني. واعتمد الرئيس روحاني وفريقه في الخارجية برئاسة ظريف في إدارته للسياسة الخارجية على المساومة واستيعاب المصالح السياسية والاقتصادية للحرس الثوري، أي محاولة خلق توازن من نوع ما. فعندما تولى ظريف الخارجية جاء بحاشيته الخاصة، لكنه أبقى على شخصية بارزة من إدارة محمود أحمدي نجاد، هي حسين أمير عبد اللهيان، نائب وزير الخارجية للشؤون العربية والإفريقية، استرضاءً للحرس الثوري الإيراني. لكن بعد توقيع الاتفاق النووي بدأ ظريف يوطد سيطرته على الوزارة. وفي يونيو 2016، أُعفي عبد اللهيان من منصبه.
يمارس ظريف سياسة حافة الهاوية، وهو يعلم أن قبول استقالته يتطلب توقيع خامنئي، مما يعني أن موافقة روحاني لا تكفي وحدها لإقرار الاستقالة، لذا فإن بقاء ظريف في منصبه، بدعم من المرشد ومن رئيس الجمهورية، في ظل التوازنات الداخلية الدقيقة، سيفرض حضوره على الساحة الداخلية وفي الأروقة الدبلوماسية، وقد أراد تحويل نقطة ضعف تمثلت بتهميشه خلال زيارة الرئيس السوري، نتيجة للصراعات السياسية الداخلية، إلى نقطة «قوة»!