دار في الأسبوع الماضي جدل غير مفيد خلال مؤتمر الاتحاد البرلماني العربي في دورته الـ29 التي انعقدت في الأردن. وكانت خلفية الجدل والنقاش الذي امتد بعد ذلك إلى وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، تتعلق بطلب توجه به مندوبو السعودية ومصر والإمارات، يتضمن تغيير بند في البيان الختامي للمؤتمر بشأن موضوع التطبيع العربي مع إسرائيل.
وقبل الخوض في وجاهة ومبررات الطلب من قبل الدول الثلاث، نستغرب أساساً كيف أصبحت مضامين الاجتماعات الرسمية متاحة للتسريب والمتاجرة واستعطاف الرأي العام والجمهور غير المسيس. لأن هذا المستوى من العبث في التعاطي مع التصورات المختلفة في السياسة الإقليمية واستخدامها برخص، إنما يهدف إلى تشويه دول بعينها أمام الرأي العام، وفي الوقت ذاته يكشف مقدار عجز الدول الأخرى التي يحتفل إعلامها بكل صغيرة وكبيرة، من دون أن يوضح للجمهور الفوارق بين المواقف السياسية والمواقف العاطفية التي لا تفقه من أمر السياسة شيئاً.
كانت مطالب الدول الثلاث بإعادة مناقشة وصياغة البند المتعلق بوقف التطبيع مع إسرائيل تستند إلى قواعد منطقية. لأن البرلمانات العربية غير مخولة باتخاذ أو رفض قرارات سياسية من هذا النوع. وكان مندوب المملكة العربية السعودية محقاً بتوصيفه لجذر الخلاف وسوء الفهم الذي حدث، حيث قال موضحاً بدقة ما يفيد بأن البرلمانات تمثل الشعوب، بينما العلاقات بين الدول تندرج ضمن العمل السياسي الذي تختص به الحكومات. وهذه القاعدة تسري على موضوع التطبيع. وبالتأكيد لا أحد يمنع البرلمانات العربية من التعبير عن رفضها للتطبيع، لكنها مؤسسات غير فاعلة سياسياً في كافة دول المنطقة، إذ تمارس التشريع لكن من دون صلاحيات في توجيه واتخاذ قرارات تتصل بالسياسة الخارجية للدول.
وعندما يصادف أن تكون لدى بعض البرلمانات العربية صلاحيات في فترات متقطعة، نجدها تستخدمها للتلذذ بالمناوشات مع الحكومة وتعطيل التنمية ووقف عمل الوزارات وتضييع فرص استثمار إيرادات البلاد لمواصلة التنمية وخدمة المواطنين.
لقد تم وضع مفردة التطبيع في قاموس الثقافة السياسية العربية المعاصرة بغموض متعمد، إذ يجري تسويقه للعامة من قبل بعض السياسيين العرب للمزايدة، وهم أولئك الذين يصورون أنفسهم وكأنهم يمثلون الخير مقابل الشر. وعندما يتحدثون عن التطبيع يجعلونه أسطورة غير مفهومة وغير محددة الملامح، ودون توضيح ماهيته ولا من هي الجهات المؤهلة لتفعيله أو وقفه، ومن حقها أن تستخدمه كسلاح مشروع في الوقت والظرف المناسبين. كما أن المزايدات باسم رفض التطبيع لا تحاول استيعاب أن هذا المفهوم في حال تطبيقه لن يتم بشكل مجاني ومن دون أي مقابل، لأن السياسة لا تتحدث إلا بلغة المصالح، وهذا ما لا يجيد رافعو الشعارات استيعابه أو شرحه للجمهور.
وكعادة النخبة التي تحاول الخلط بين السياسة وبين ممارسة السحر والشعوذة، يتم إرهاب الشعوب والسيطرة عليها بشعارات متوترة، بهدف اتهام الآخرين بخرق المحظورات والخطوط الحمر، ومن أجل إظهار الذات في ثوب البراءة والالتزام بالقواعد التي لا دخل لها بالسياسة. لأن السياسة هي فن الممكن، ولا توجد فيها محظورات، ومن يروج لغير ذلك إنما يخدع الشعوب ويبتزها أخلاقياً، ويكون كاذباً لأن لديه حتماً أهدافاً أخرى غير معلنة.
وحتى الآن لا يزال بعض المنتسبين للنخبة السياسية العربية يعتمدون على توظيف الشعارات القائمة على المتاجرة السياسية، كما يوظفون في خطابهم السياسي كل ما يبعث على التصفيق والحماس المفتعل. وهذا الأسلوب لا علاقة له بالسياسة ورسم الاستراتيجيات واستيعاب التحولات.
هناك أيضاً من يرغب في أن يفرض وصاية سياسية مطلقة على الشعوب، من خلال الاستمرار في تعبئة العقول بشعارات لا يمكنها أن تصمد عند أول اختبار منطقي بمعيار العلاقات الدولية في العصر الراهن. والأمثلة في هذا المضمار كثيرة، وتدل على عقم التفكير السياسي العربي، وعلى الفشل في تقديم أطروحات وأفكار تنسجم مع الواقع السياسي للمنطقة.
كان على المنفعلين في اتحاد البرلمانات العربية مناقشةَ تفعيل دور برلماناتهم وتحويلها إلى ورش لدعم الحكومات ورفدها بالتشريعات التي تخدم مستقبل الشعوب، بدلاً من اكتفاء البعض باستخدام مقاعدهم البرلمانية لتوجيه الخطابات الحماسية التي استهلكها الزمن.