من القصص التي يغيّبها كتّاب المرويات الدينية، ما حدث في الفترة التاريخية بين 615 - 628 للميلاد في الحبشة (إثيوبيا الحالية)، بين الملك النجاشي اصحمه بن أبجر وبين النبي محمّد بن عبدالله، صلى الله عليه وسلم، وتحديداً بعد غزوة الخندق (حوالي 627 م). فما تلك القصة؟ وكّلَ النبي محمّد الملك النجاشي بعقد قرانه على سيدة هاجرت إلى الحبشة هي أم حبيبة بنت أبي سفيان، زعيم قريش وخصمه العنيد، بعد أن تنصّر زوجها وتوفيَّ هناك. فقام النجاشي فور توكيله بالمهمة، بتزويج أم حبيبة لمحمّد بن عبدالله، وزاد على ذلك أنه أصدقها من صداق - قدره أربعمائة دينار، مقدماً بذلك مكرمة تنم على عمق المودة والثقة المتبادلة (انظر دويدار، صور من حياة الرسول). فما دلالة هذا الحدث، وكيف يقرؤه علماؤنا الأجلاء، وما صداه لدى العامة من المسلمين؟ وبعضهم ربما يسمع القصة لأول مرة. أسئلة مهمة نطرحها هنا لاسيما ونحن في عام التسامح، وحوار الأديان، والعمل على المشتركات في الفضاء الإبراهيمي.
أما القصة الأخرى فهي لرجل من مسيحي الشرق العرب، وتنطوي كما الأولى على دلالات وإشارات غاية في الأهمية. كان هذا الرجل محاضراً في جامعة دمشق، فدخل عليه الصف يوماً طالبُ متأخر، فسأله عن سبب تأخره، ارتبك الطالب وتقدم منه قائلاً: إن سبب تأخره عملهُ بالفحم ليلاً ليتمكن من الدراسة نهاراً. عندها نهض الأستاذ وأمسك بيد الطالب وقبلّها أمام الطلبة. هذا الرجل أسس معهد الحقوق العربي، كما أسهم بتأسيس المجمع العلمي العربي، وتقلد مناصب عدّة مهمة فكان وزيراً للمالية ثم وزيرا للداخلية ووزيرا للمعارف - التربية والتعليم. وانتخب رئيساً للمجلس النيابي السوري، ثم أصبح رئيساً للوزراء، حينها أبلغه الجنرال «هنري غورو»، المندوب الفرنسي في سوريا ولبنان (أن فرنسا جاءت إلى سوريا لحماية مسيحيي الشرق)، فما كان منه إلاّ التوجه إلى الجامع الأموي في يوم جمعة ويصعد المنبر ليقول: (إذا كانت فرنسا تدّعي أنها احتلت سوريا لحمايتنا نحن المسيحيين من المسلمين، فأنا كمسيحي من هذا المنبر أشهد أن لا إله إلا الله). فهب كل من في المسجد وحملوه على أكتافهم وخرجوا به يجولون أحياء دمشق في مشهد مؤثر، وخرج معهم أهالي دمشق المسيحيين في مظاهرة حاشدة يرددون جميعا (لا إله إلا الله..). عمل الرجل في الأمم المتحدة مندوباً لسوريا تحت الانتداب الفرنسي حينذاك، نقلت كتب التاريخ أن الرجل جلس على مقعد مخصص للمندوب الفرنسي الذي ما أن انتبه إليه حتى استشاط غضباً وارتفع صوته طالباً نهوضه عن كرسيه، فجاء رده التاريخي عليه (إذا كنت لم تتحملني أجلس على كرسيك نصف ساعة، فكيف تقبل أن تجلس جيوشك في بلدي ما يزيد على خمس وعشرين سنة؟). في تلك الجلسة الصاخبة وإثر هذه الحادثة مع الخطاب الذي أعقبها، انتزع الرجل قرار استقلال سوريا فغادر الفرنسيون في 17 أبريل عام 1946م. الأغرب من كل هذا في مسيرته أن الرجل تسلّم منصب وزير الأوقاف الإسلامية عام 1944م، نزولاً عند رغبة أعضاء المجلس النيابي وأبرز المطالبين كان النائب عبدالحميد الطبّاع الحلبي بقوله:(إننا نستأمنك على أوقافنا الإسلامية أكثر مما نؤمن أنفسنا). هذا الإنسان الصالح والوطني هو المسيحي فارس الخوري، المتوفى عام 1962 رحمه الله.