يمر العالم العربي حالياً بمآزق واضطرابات تؤلم معظم مواطنيه وتفرح أعداءه، وذلك على نحو شبه دائم ومفتوح، وهذا الأمر ليس جديداً، بل مستمر منذ العصور الحديثة وظاهرة الاستعمار الغربي التي رافقتها. وهنا، نكون بإزاء حقلين مختلفين؛ الهوية وتمظهرها على الصعيد الجغرافي الطبيعي؛ بينما نواجه هناك هوية ذات طابع مجتمعي، وبذلك يتماهى الطبيعي مع المجتمعي، وتتلاشى مسألة الهوية الخاصة، لتتحول الهويتان الطبيعية والمجتمعية إلى واحدة؛ ونجد أنفسنا أمام وجود واحد بهوية واحدة، وإن اختلف الفريقان اختلافاً لا يمس الهوية الذاتية والوجودين أو العالمين الاثنين: لقد اختزل العالم إلى وجود واحد، إنه الوجود؛ ومن ثم فهذان كلاهما يشكلان هوية واحدة؛ وهذا يجعلنا نستنبط النتيجة المنطقية الحاسمة؛ الوجود الطبيعي والمجتمعي كلاهما واحد يجد وحدته في انتمائه «الحضاري»، فالشرق والغرب لا يختلفان في الطبيعية أو في المجتمع فحسب، وإنما يختلفان في كليهما.
ومن ثم، فإن المقولة المعروفة والقائلة بأن الشرق شرق والغرب غرب، ولا يلتقيان، هي مقولة خاطئة، وفق المنطوق الذي وصلنا إليه، حين ميزنا بين الطبيعة والتاريخ، ووصلنا إلى أن الطبيعة في الشرق مختلفة عن المجتمع في الغرب؛ أي ليس ثمة ما يجمع بين الحقلين (الطبيعة والمجتمع)، وهكذا تواجهنا وحدة العالم، طبيعةً ومجتمعاً، في العالم العربي، باعتبار أن الحقلين من طينة واحدة؛ وكذلك الوحدة المذكورة بين العالم الطبيعي والعالم المجتمعي في الغرب. وهكذا سدت النوافذ والتسربات بين العالمين المذكورين.
وثمة ملاحظة ذات طابع منهجي ونظري تفسح أمامنا الطريق لنتبين أبعاد المسألة التي نحن بصددها.. فالحديث عن الجغرافيا وعن التاريخ له مخارج أخرى، يمكن أن تفتح لنا مناطق يتوجب الإتيان عليها. إن نظرية الاستشراق الغربي تسمح لنا، أولاً، أن نميز بين الجغرافيا والتاريخ. فالأولى حقل مفتوح، انفتاح الطبيعة على نحو يسمح أو قد يسمح بآفاق وأبواب جديدة تتطلب الدراسة والتدقيق: خصوصاً في فكرة أن الجغرافيا هي بالأساس، صنيعة التاريخ.
وهنا ينبغي التداخل عبر فكرة نشأت وتبلورت في سياق التطور الحضاري، وهي تحويل الطبيعة إلى موضوع إنساني حضاري يسهم في تقدم التاريخ البشري. وعبر ذلك، اكتشف الإنسان الحلم، الذي أغرق المجتمع البشري بنجاحاته وأحلامه. وكان ذلك على أيدي مجموعات من علماء الشرق «المستشرقين».
لكن هؤلاء قدموا جهودهم أو بعضها مع تطور المجتمعات الغربية، التي تبلورت فيها فكرة الاستشراق، واتضح لاحقاً أن هذه الفكرة، الاستشراقية نشأت في قلب مجتمعات غربية اقتربت من منظومة «الاستشراق»، ما راح ينتج وهم الاستشراق القائم على أن الطبيعة والمجتمع في العالم العربي يرتبطان معاً على أساس أنه لا يكفي أن يكون المجتمع العربي أو الشرقي طعاماً سائغاً لذوي المصالح الغربية، وإنما يقتضي الأمر أن تتم عملية تشابك مصلحية لصالح الغرب الاستشراقي، الذي وصل إلى مرحلة التهام «الآخر» اقتصادياً وثقافياً.