في آخر أيام يوليو عام 2017، أصيبت طفلة في التاسعة من عمرها تدعى «كيرا» إصابات خطيرة، في حادث سيارة على إحدى الطرق السريعة في إنجلترا. وبعد يومين من إقامتها في العناية المركزة، أدرك الأطباء أنهم لن يستطيعوا إنقاذها بعد تأكيد وفاتها دماغياً. وهو ما حدا بفريق طبي متخصص للتحدث مع ذويها، عن إمكانية التبرع بأعضائها، قبل فصل أجهزة دعم الحياة عن جسدها الصغير. وبعد دقائق من النظر لوجه صغيرتهم الممد دون حراك، قرر والداها الموافقة على التبرع بأعضائها، حين اطمأن قلبهم أنها لو كانت في وعيها لاتخذت القرار نفسه.
وسرعان ما اصطفت سيارات الإسعاف من مستشفيات مختلفة، لنقل أعضائها، كالقلب والكليتين والكبد والبنكرياس، لمرضى على قوائم الانتظار، يصارعون الموت كل يوم، ولن يقدر لهم الحياة طويلًا، لو لم يحصلوا على أعضاء بديلة لأعضائهم التي فشلت. من هؤلاء المرضى طفل في التاسعة من عمره أيضاً، يدعى «ماكس»، كان قد أصيب بفشل وهبوط في عضلة القلب، نتيجة عدوى فيروسية، أصبح مقيماً دائماً بعدها في مستشفى «نيوكاسل»، يساعده على الاستمرار في الحياة، مضخة ميكانيكية تدعم قلبه الضعيف الواهن.
هذه القصة لم تترك أثرها على أسرة الطفلين فقط، وعلى بقية المرضى الذين تلقوا أعضاء «كيرا»، بل على المجتمع الإنجليزي برمته، مما حث الحكومة على طرح مشروع قانون، سيحمل اسم هذين الطفلين، ليعرف باسم قانون «ماكس وكيرا»، يتوقع له أن يمرر بشكل نهائي خلال الأيام القليلة القادمة، ليغير من الحالة القانونية لجميع أفراد المجتمع، فيما يتعلق بالموافقة على حصد ونقل الأعضاء بعد الوفاة، ويصنفهم إلى فئتين: موافق ضمناً أو غير موافق. ولفهم أهمية هذا التغير وتبعاته، لا بد أن نسترجع بعض المعلومات الأساسية عن نظام الموافقة المستخدم حالياً في مجال زراعة الأعضاء، والذي يعرف بـ«المتبرع المشارك» (Organ Donor). في هذا النظام، يقوم الشخص طواعية في حياته، وكامل قواه العقلية، بالتوقيع على إقرار قانوني، يفيد بموافقته على التبرع بأعضائه في حالة الوفاة الدماغية. ويعيب هذا النظام، هو حقيقة أن الكثيرين –وربما الغالبية- لا يمانعون من التبرع بأعضائهم بعد وفاتهم، ولكنهم لا يتخذون خطوة الإعلان عن ذلك والتوقيع على الإقرار، لسبب أو لآخر، مثل عدم معرفة الطريقة والإجراءات اللازمة، أو الانشغال بأمور الحياة الاعتيادية، إلى أن توافيهم المنية في حادث سيارة مثلاً، قبل الإعلان عن موافقتهم تلك.
وما سيغيره القانون الجديد، هو أنه سيعتبر جميع أفراد المجتمع (موافقين ضمناً) على التبرع بأعضائهم، وإذا ما رغب شخص خلاف ذلك، فعليه اتخاذ الإجراءات اللازمة، والإعلان عن رغبته بعدم التبرع. هذا النظام مطبق حالياً في العديد من الدول، مثل النمسا وإسبانيا وبلجيكا وكولومبيا وشيلي والأرجنتين، بينما تظل العديد من الدول معتمدة على النظام القديم، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا والبرازيل، وغيرها.
ويمكن توضيح الأثر العميق الذي يمكن للتغيير من نظام التبرع التطوعي الشخصي إلى التبرع الضمني المجتمعي، من خلال مقارنة سريعة بين ألمانيا والنمسا، وهما دولتان متطابقتان تقريباً في الدين، واللغة، والثقافة، والثراء، ومستوى الرعاية الصحية. ففي ألمانيا والتي تعتمد على النظام القديم، نجد أن 12 في المئة فقط من السكان، يمكن استخدام أعضائهم بعد الوفاة، وهي نسبة الألمان الذين قاموا باتخاذ الإجراءات اللازمة لتسجيل أنفسهم كمتبرعين تطوعاً. أما في النمسا، والتي تطبق نظام التبرع الضمني، نجد أن أعضاء 99.98 في المئة من السكان متوافرة للنقل والزراعة بعد الوفاة، حيث لم يبدِ إلا 0.02 في المئة فقط من النمساويين عدم رغبتهم في التبرع بأعضائهم بعد الوفاة. وعلى المنوال نفسه، نجد أن إسبانيا التي تطبق نظام التبرع الضمني منذ عقد التسعينيات، تحتل حالياً رأس قائمة الدول على صعيد معدلات التبرع، وبالتحديد 47 متبرعاً لكل مليون من السكان، وهو الرقم الأعلى في العالم على الإطلاق، حيث يبلغ ثمانية أضعاف معدلات التبرع في اليونان مثلاً.
وإن كان هذا لا يعني أن المقاربة القانونية وحدها كفيلة بزيادة معدلات التبرع في بلد ما، حيث يتطلب نجاح أي برنامج وطني لزراعة الأعضاء، بنية تحتية طبية وعلمية، قادرة على التعرف على المتبرعين المحتملين في أقسام العناية المركزة، وعلى المرور بالمتبرع المحتمل خلال المراحل المختلفة، وصولاً به لمرحلة المتبرع الفعلي في النهاية، بالإضافة إلى توافر نظام رعاية صحية قادر على إبقاء المحتاجين لهذه الأعضاء على قيد الحياة، إلى أن تمنح لهم هبة الحياة مرة أخرى.