كانت ثقافة التنوير ترى أن الديمقراطية هي الحل السحري، لكل ما يندرج من أزمات، وكل ما يتصل بها من إرادة الشعب. لكن بدا بعد قرنين أو أكثر أن الديمقراطية اسم مشكلة أكثر مما هو حل، فالعبارة اليونانية القديمة كانت مؤلفة من كلمتين (demos) (الشعب) و(kratos) (السلطة) أي ضرورة سهلة بإعطاء السلطة كلها للشعب.
هذا من حيث المعطى. لكن الديمقراطية ليست تحديداً نظاماً سياسياً مطلقاً، بل مجرد اقتراح بين عوامل عديدة تشكل مداها وأدواتها وأشكالها، وهذا يحدد مدى ائتمان السلطة للشعب، لكن هل يصمد هذا الائتمان حتى في المستوى المنخفض للمجتمعيات السياسية والأسس العمومية والخاصة؟ ألا تخضع هي إلى تواطؤات في إدارة الشؤون من تحديد سياسة البلد، أو الميزانيات أو التوجه الاقتصادي أو حتى الأخطاء، والنقد؟ من يدير من: الاختصاصيون، وعندها تقع الديمقراطية في البيروقراطية، السلطة المنتخبة فحسب، وقد تقع عندها في الفوضى أو يتسرب إليها الفساد أو تفرض على مضامينها وتجلياتها الإدارة العليا، التي ترى أنها أكثر من حَكَم، وأكثر من مجرد إدارة بل صاحبة القرار في الصغيرة والكبيرة.
فإذا أخذنا العبارة من هذا الجانب أو من شبيهه في الاختلافات والتفرد فسنجد أنه لم توجد إطلاقاً ديمقراطية حقيقية تحت المسمى الإغريقي الذي شاب مفاهيمه لها، لمراحل تنفيها: عدم المساواة بين المواطن الإغريقي والعبد، عدم المساواة بين المرأة والرجل، وعندها تصبح ديمقراطية محددة ناقصة تفتقد كثيراً من حقائقها.
وهناك الجانب الأهم الذي أشار إليه جان جاك روسو لا يمكن تصور أن يبقى الشعب نفسه متوافقاً، أو مجتمعاً على إدارة الشؤون العمومية وعندها تتجاوز التعددية إلى الانقسام، وأحياناً كثيرة إلى الانفصال، لفقدانها جسوراً تعني تجديد طبقات لبناء السلطة لكي لا تنعكس عليها هذه الاختلافات وتؤدي إلى تفككها، وتصبح المجتمعات نفسها غير قابلة للحكم.
من هنا تبنت الشعوب في الأزمة الحديثة الديمقراطيات التمثيلية، لكن حتى هذه اعتبرها الكثيرون حتى في القرن الثامن عشر مجرد حل براجماتي، إزاء استحالة ممارسة الديمقراطية المباشرة، باعتبار أن تنامي السكان والمساحات المتباعدة منهم أو الناخبين، ولهذا جاءت الديمقراطية التمثيلية تسوية، لم تلبث أن ظهرت نواقصها، سواء في القرن التاسع عشر أو العشرين والقرن الحادي والعشرين فهي سمحت لطبقة معينة من السياسيين المحترفين بالوصول إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، موصدين الأبواب دون التنظيمات الداخلية، والظواهر الخلافية للأحزاب، خصوصاً من خلال استخدام وسائل الإعلام الجماهيرية التي تلعب دوراً في العمليات الانتخابية وهذا ما نراه اليوم في المجتمعات الأكثر عراقة في الديمقراطية: الطبقات الغنية، والأحزاب الأوليجارشية وأشكال التمويل الخرافية هي التي ترجح كفة المرشحين، وهكذا تتشابه النتائج، لتنتقل السلطة إلى الأحزاب نفسها وحتى الوجوه نفسها ويحدث ما يشبه (الاستنقاع) على مستوى تلبية مطالب الناس ومصالحهم.
واليوم بالذات في بعض دول أوروبا، كفرنسا وإنجلترا وإسبانيا واليونان أن الديمقراطية، كما مورست، تفككت ومعها منظوماتها السياسية والحزبية. وما نراه من ظواهر «السترات الصفر» في فرنسا المتسمة بالعنف والفوضى ليست سوى رفض لهذه الديمقراطية التمثيلية، بل وحتى رفض لمفهوم الديمقراطية. فالناس عموماً، وخصوصاً الطبقات الفقيرة والمتوسطة، وسكان الأرياف لم يعودوا يحبون الديمقراطية: إذ يحمّلونها كل ما يعانون من مشاكل. أكثر الأحزاب التي مارست هذه الديمقراطية تخلت عنها الناس. حتى باتت في نهايتها: سقط اليمين واليسار والوسط، وفقدت الديمقراطية عناصرها المكونة، لتطفو على سطح النوازع العنصرية، والفوضى والقوميات المتطرفة والتقوقع وكراهية الغرباء، والمهاجرين، والأفارقة والإسلام.
السؤال: كيف تنتج الديمقراطية نفسها نقائضها، وأسباب موتها، وكيف تؤدي إلى مثل هذا الخراب في العقول والنفوس والنوازع؟
أهو خطأ الديمقراطية، أم ممارستها، أم أن الديمقراطية في النهاية، مجرد وَهم.. حتى عندما كانت في صلب الحياة السياسية والشعبية كيف نفسر أن الديمقراطية، سلطة الشعب، بات الشعب يكرهها؟