حقق المؤتمر الوزاري لدعم السلام والأمن في الشرق الأوسط، الذي عُقد في وارسو في 13 و14 فبراير الجاري، تقدماً أكثر مما بدا في تغطيات كثير من وسائل الإعلام، ومما يظهر في تعليقات المراقبين. وربما أدت المبالغة في توقع ما يمكن أن يسفر عنه إلى التباس في فهم مغزاه. هذا مؤتمر أول يهدف إلى إطلاق عملية تقود لتأسيس ائتلاف مرن يجمع دولاً لديها مصالح مشتركة في تحقيق الأمن والسلام في منطقتنا، ويسعى لتحقيق أكبر قدر ممكن من التوافق، وليس الاتفاق الكامل، على القضايا الأساسية فيها.
وهذا نوع من المؤتمرات يصح التأني في تقييمه، وعدم إصدار أحكام متعجلة استناداً إلى مستوى تمثيل بعض الدول المشاركة فيه، أو ترتيباً على اعتقاد البعض في إمكان حل خلافات بشأن بعض القضايا في بضع ساعات، مثل الخلاف بين الولايات المتحدة ودول أخرى من ناحية، ودول أوروبية من ناحية ثانية، على كيفية مواجهة التهديد الإيراني الذي صار موضع اتفاق من حيث المبدأ، لكن ليس من حيث التفاصيل.
كما يتعذر تقييم مؤتمر وارسو تحديداً ما لم نربطه باجتماع وزراء دفاع «الناتو»، الذي عُقد في بروكسل بالتزامن معه. فالأجواء التي عُقد فيها اجتماع بروكسل يمكن أن تُيسر تحقيق تقارب أميركي أوروبي يساعد في بناء التوافق الذي يسعى مؤتمر وارسو لبنائه تدريجياً.
تصدرت قضية تأثير الإلغاء المتوقع لمعاهدة القوى النووية متوسطة المدى، الموقعة بين واشنطن وموسكو عام 1987، على أوروبا، النقاشَ في اجتماع بروكسل. وأظهر هذا النقاش مدى قلق الأوروبيين، لأن بلادهم ستكون المسرح الرئيسي لسباق تسلح جديد سيترتب على إلغاء تلك المعاهدة. وقد بات هذا الإلغاء متوقعاً، بعد أن قررت الولايات المتحدة في 5 فبراير الجاري تجميد الالتزام بها لمدة ستة أشهر قبل إعلان القرار النهائي بشأنها، وردت روسيا باتخاذ إجراء مماثل.
وهكذا، بدأ العد التنازلي لإسدال الستار على مرحلة تحررت فيها أوروبا إلى حد كبير من المخاوف التي عانت منها طول فترة الحرب الباردة الدولية. ولذا، فرغم أن الخلاف بين الولايات المتحدة وأوروبا على قضية الإنفاق الدفاعي، بعناصرها الثلاثة المالية والتسليحية والبشرية، واستياء واشنطن من تحملها معظم نفقات الحلف، كان حاضراً في اجتماع بروكسل، فقد ساهم إلحاح قضية إلغاء معاهدة القوى النووية متوسطة المدى في تقليص مساحة الخلاف عليها.
وظهر هذا، على سبيل المثال، في إعلان القائم بأعمال وزير الدفاع الأميركي باتريك شايهمان، تجديد التزام الولايات المتحدة تجاه «الناتو»، وكذلك في حديث أمينه العام نيس ستولنبرج عن حرص الأوروبيين على تقاسم الأعباء الدفاعية.
وإذا صح أن هذه اللغة التصالحية، والأجواء التي عُقد اجتماع بروكسل في ظلها، تزيد فرص حدوث تقدم في العلاقات الأميركية الأوروبية في الفترة القادمة، فليس مستبعداً أن يفيد هذا التقدم في الحد من الفجوة بين موقف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بشأن القضيتين اللتين تصدرتا مؤتمر وارسو، وهما التهديد الإيراني، والمبادرة الأميركية المرتقبة لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي المعروفة إعلامياً باسم «صفقة القرن».
فقد ازدادت حاجة أوروبا إلى علاقة أقوى مع الولايات المتحدة، في ظل تنامي مخاوفها من الصواريخ التي أكدت روسيا أنها ستشرع في إنتاجها فور إلغاء المعاهدة رسمياً، بل بدأت فعلاً في هذا الإنتاج عبر تطوير نظام ‏(8 SS)، الذي يُطلق عليه بالروسية (729 m 9). وهذا نظام مُصمم لإطلاق صواريخ كروز يمكن أن تحمل رؤوساً نووية. ورغم إعلان روسيا أن مدى هذه الصواريخ لا يزيد على 480 كم، يقول الأميركيون وبعض الأوروبيين إن مداه يصل إلى 2000 كم. والمعضلة التي تواجه أوروبا بهذا الشأن أنها تريد تجنب حظر الصواريخ الروسية من دون نشر مزيد من الصواريخ والمنظومات الدفاعية في أراضي دولها، ولا سبيل إلى تحقيق ذلك من دون تطوير وسائل جديدة تحتاج لتكنولوجيا أكثر تقدماً، الأمر الذي يزيد حاجة أوروبا للولايات المتحدة.
والمفترض أن يؤدي هذا التطور إلى تقارب أميركي أوروبي لم يكن متوقعاً مع وجود الرئيس ترامب في البيت الأبيض، أو يفوق أقصى ما كان يمكن توقعه بعد التباعد الحادث بين الدولتين الرئيسيتين في الاتحاد الأوروبي (ألمانيا وفرنسا) وبين الولايات المتحدة منذ أن تولى منصبه في يناير 2017. وفي هذه الحال، ستزداد إمكانات بناء الائتلاف الدولي الذي عُقد مؤتمر وارسو من أجل وضع حجر أساسه.