يواصل الجنس البشري مسيرته صوب مرحلة «ما بعد موت الإنسانية» التي نعرفها بخطى ثابتة، ولطالما سمعنا عن الثورة الصناعية الرابعة، وهي حقبة الثورة الرقمية التي تسبق في رأيي الاندماج الكلي بين الذكاء الاصطناعي والإنسان والهندسة البيولوجية والتكنولوجيا الحيوية، حيث تدمج التكنولوجيا في المجتمعات وحتى في الجسم البشري. وقد تميّزت الثورة الصناعية الرابعة باختراقات التكنولوجيا الناشئة لعدد من المجالات بما في ذلك الروبوتات، والذكاء الاصطناعي، وتكنولوجيا «النانو»، والحوسبة الكمية (سوف يسمح الحاسوب الكمي بتسهيل مجموعة من الحسابات المعقدة أو المستحيلة وفي زمن قياسي بالمقارنة مع الحسابات الرقمية المعمول بها حالياً كمحاكاة الظواهر الطبيعية وفك رموزها، وفهم التفاعلات الكيميائية والجزيئيّة، والقيادة الذاتية، توقّع الطقس والاضطرابات المناخية، توقّع تقلّبات البورصة، الكشف المبكر عن السرطان، هندسة أدوية جديدة وفعّالة، تحليل الحمض النووي، حماية الأنظمة والأجهزة الإلكترونية من هجوم القراصنة، وتطوير الروبوتيك)، والخوارزميات المتقدمة وإنترنت الأشياء، والجيل الخامس من التكنولوجيات اللاسلكية (5g)، والطباعة ثلاثية الأبعاد. إنها مرحلة مهمة في عمر البشرية بدأت بالفعل بتكنولوجيا الواقع الافتراضي، والتكنولوجيا اليومية التي نستخدمها في شتى مناحي الحياة، والتقدم التكنولوجي المذهل في تطبيقات الاتصالات والإنترنت، وتأثير التطورات السريعة لقدرات التكنولوجيا على وظائفنا ومدارسنا وبيوتنا ومستشفياتنا، وطريقة تسوّقنا وتواصلنا والخدمات الحيوية اليومية التي نستفيد منها.
فالثورة الصناعية الرابعة هي: القفزة الصناعية الرئيسية الرابعة، والتي من شأنها أن توسّع الفجوة بين من يملك المعرفة ويتحكّم بإدارة البيانات ومفاتيح المعرفة على مستوى العالم، ولديه أسرار الطفرات التكنولوجية الناشئة، ومن لا يملك. وتبرز هنا أهمية إحداث ثورة حقيقية في التعليم، فلا أعتقد أن الجامعات والمدارس بواقعها الحالي في عالمنا العربي، وحتى عالمياً، ستكون مصانع إنتاج موظفي المستقبل ووظائف المستقبل، وخاصةً أن الأتمتة ستحل محل العديد من المهام التي قمنا بها سابقاً، وستخلق أيضاً فئات جديدة كاملة من المهام والخدمات التي سندرك قريباً بأننا لا نستطيع العيش من دونها، ومع ذلك لا يزال النقاش قائماً في العالم العربي حول أي مدرسة ونمط عالمي، يجب أن نتّبع -بدلاً من أن نقوم بإنتاج المعرفة- ونأتي بنموذج مبتكر نسبق به العالم. وحتى نصل للقمة في ما هو قادم في الثورة الصناعية الرابعة، فلا بدّ أن نجعل الابتكار والإبداع من أهم الوظائف الحكومية، وأن نوفّر البيئة المناسبة له، ولن ينفعنا التسلّح التقليدي، ولا القوى الناعمة والصلبة التقليدية في مواجهة من يتنافس على استيطان المريخ، وينبغي أن يكون لدينا مدخل حقيقي لحقول المعرفة.
فدعونا نقول بأننا بحاجة ماسّة إلى عقد اجتماعي جديد، ويجب أن نتوقف عن إعداد الناس لوظائف الأمس. ومن أجل إنشاء شبكات أمان حقيقية، ينبغي أن نشجّع الناس على تحمّل المخاطر وإحياء علاقتهم بالابتكار، وفتح المنافسة حتى على الوظائف الحكومية التقليدية التي يشغلها أبناء البلد، كون تحولات الثورة الصناعية الرابعة تتطّلب إعادة النظر في توازن الفرص والنتائج عبر الجغرافيا والأجيال، وخلف حدود الجنسية والعرق والمذهب واللغة، فالمتغيّرات الصناعية الصاخبة في المستقبل ستضيّق الفجوة بين الإنسان والآلة، وتوسعها بين الإنسان وأخيه الإنسان، وستتغير القيم والأعراف والمؤسسات الإنسانية في عصر ولادة الرأسمالية التقنيّة الذكية، وتوسيع نطاق التكنولوجيا المتمحورة حول الإنسان، والزيادات الهائلة في القدرة الحاسوبية، وبالتالي نهاية التنمية الاجتماعية المتوارثة عبر الأجيال والخصوصية والملكية الفردية ستكون ملكاً للمؤسسات التجارية والصناعية العملاقة قبل الحكومات، وسيصبح مفهوم الهوية في هذا السياق نوعاً من الرجعية والتخلّف.
فالثورة الصناعية الرابعة ستهزّ نماذج الأعمال القديمة، وتقدّم الخيارات الاستراتيجية التي تعزّز الكفاءة في مواجهة الطفرة المتسارعة للتغيّر في التكنولوجيا وإنشاء أنظمة مستدامة، وضمان مستقبل أفضل من حيث الرخاء ونوعية الحياة، والفترة الزمنية التي سوف يعيشها الإنسان من دون أمراض وشفاء ذاتي من خلال تكنولوجيا بيولوجية غير مسبوقة. ولتحقيق النمو الشامل في الثورة الصناعية الرابعة يجب أن يكون لدينا قوة خيال خصبة، ومنصة ابتكار واختراع وطنية للتعامل مع تعطيل أسواق العمل، وبما أننا في بداية هذه الثورة فلم يفت الأوان بعدُ لكي نبذل قصارى جهدنا لنتأكد من أن هذه الثورة الصناعية بخلاف سالفاتها مستدامة! ولهذا نحن في حاجة ماسّة إلى الإسراع في فهم أثرها المحتمل، وضمان البنية التحتيّة الكافية لركوب موجة التغيّر التكنولوجي، والتحديات الاجتماعية المعقدة.