في الكتابة عن مسائل النهضة الحديثة في العالم العربي، ينبغي الانتباه إلى ملاحظتين اثنتين تتصلان بقضية الضبط المنهجي التاريخي لما نسعى إلى الإتيان عليه. وأولى الملاحظتين أن الغرب كان بصدد تحولات عظمى أثّرت فيه، وكانت لها تأثيرات عميقة على العالم العربي خلال النصف الأول من القرن العشرين، خصوصاً البلدان العربية التي تأثرت بالحرب العالمية الثانية. أما الملاحظة الثانية فتتصل بمرحلة الاستقلالات التي عاشت أجزاءٌ من العالم العربي إرهاصاتها وسارت بين مدّ وجزر باتجاه إرساء أنماط من الاستقلال الوطني، وكان ذلك بمثابة الدخول إلى عصر جديد.
مع الحرب العالمية الثانية، كادت تكتمل فاعلية نهج التخلف والتخليف بقدر أو آخر لصالح سادة العالم الجديد (الاستعماريين)، ورغم نشوب معارك الاستقلال في بعض البلدان العربية، كانت راية التخليف قد شملت مساحات واسعة. ثم راحت جوانب من الإرث التاريخي العربي تفصح عن نفسها داخل بعض البلدان العربية، حيث راحت جوانب التخليف تتسرب إلى حقول مجتمعية عديدة.
إن الاستعمار الغربي في وجهه الاقتصادي والسياسي، أي ذلك الوجه الذي يؤسس للراهن والقادم أو ما بعده، لم يحول اهتمامه عن العالم العربي إلا في النادر من المراحل.
وهكذا نرى أن المنظومة النهضوية التي يسعى العالم العربي للإمساك بها على نحو دقيق وعالم، وصلت أحياناً إلى نسبة قد لا تتجاوز النصف، لتجد نفسها أمام ما لا يحصى من الصعاب إلى درجة مخيفة وخطيرة، فتنتهي بالإعاقة والتخويف. وتعود العجلة إلى سابق عهدها، ثم سرعان ما يتحول الموقف إلى تهديد بالطرد أو الاستبدال أو الإدانة التي تفضي إلى السجن.
وعلى مستوى سياسي يمكن أن تنشأ أحوال جديدة من المماطلة والتشكيك والإدانة، مع حملة من التشكيك وتشويه المصداقية المعرفية لأي مشروع فكري تحديثي تنويري.
ومن الأحوال الفاجعة بشدة، والتي قد نصادفها في الإعلام الراهن، ما يحدث من تأسيس تقاليد قديمة يُعاد تأهيلها وفق الحاجات الجديدة، لتغطية واقع ثقافي وفكري واجتماعي واقتصادي لا يساير العصر. وفي سبيل تقريب ذلك من الفهم، نشير فقط إلى حالة سوريا، وما تمت به مواجهة رغبات الناس هناك وأشواقهم إلى الانفتاح.
لقد مرت سنون طوال لا نتمنى أن تكون عجافاً، لذا فثمة ملاحظة أخيرة هامة، لا نقول فيها إن شيئاً لم يتغير في البلدان العربية وفي الحقول المتعددة من حياتها، مثل السياسي والقانوني والتشريعي والعلمي والثقافي، وكذلك في الحقل الاقتصادي والمجتمعي والأخلاقي والتعليمي، والاستراتيجي وربما العسكري، وحقول أخرى مثل المجتمع المدني الديمقراطي.. لكن بقيت قطاعات ومجالات مهمة وحيوية، ظلت تتأرجح في تقدمها، وفق التغيرات والتحولات التي لحقت بالعالم العربي.. وما تزال المسألة مفتوحة على المجهول.
ولم تكن فاعلية المشاريع النهضوية العربية استراتيجية الطابع، ولا راسخة في الجذور، كما هي جذور الطبقات والفئات الاجتماعية والمؤسسات العلمية الأكاديمية والثقافية التي صنعت النهضة في الغرب، مما ساعد على تطوير عميق وراسخ للحقول والمواقع الهامة في حياة البشر والشعوب والنظم السياسية.
إن منظومة الديمقراطية، بما تشتمل عليه من مواقع وآليات لصناعة القرار، مثلت في الغرب منظومةً متكاملةً للتأسيس والمراقبة والمحاسبة.. وهو ما لم نجد له نظيراً في مشروع النهضة العربية.