مرّ الوصول إلى هذه القمة بمراحل متعددة. المرحلة الأولى كانت في عام 1995 عندما عُقد في الفاتيكان، وبدعوة من البابا الأسبق يوحنا بولس الثاني، سينودس (مؤتمر) حول لبنان تشجيعاً لرسالته في العيش المشترك وأملاً في نشر هذه الثقافة في الشرق الأوسط. لكن للأسف فإن لبنان غرق في صراعاته ومناكفاته الداخلية وابتعد عن هذه الرسالة.
المرحلة الثانية كانت في عام 2010، عندما دعا البابا السابق بنديكتوس السادس عشر إلى سينودس حول الشرق الأوسط، بهدف التأكيد على حق المسيحيين في دولهم كمواطنين، وعلى الحريات العامة وفي مقدمتها الحرية الدينية التي اعتبرها «تاج» الحريات.
لكن الذي حدث كان على العكس من ذلك، إذ انفجرت أحداث التطرف الإرهابي التي استهدفت المسيحيين في بلداتهم وبيوتهم، وفي كنائسهم وأديرتهم وخاصة في سوريا والعراق. وكانت النتيجة هجرة عشرات الآلاف منهم، وانتكاس العلاقات الإسلامية المسيحية.
ثم كانت المرحلة الثالثة عندما اتخذ هذه المرة، الأزهر الشريف بقيادة الإمام الشيخ الدكتور أحمد الطيب، المبادرة لكسر شوكة الإرهاب وتجريد التطرف من أي صدقية واعتباره عصياناً على الشريعة الإسلامية، وهو ما أكدته البيانات الصادرة عن المؤتمرات الأربعة التي عقدها الأزهر في مقرّه بالقاهرة.
لقد أكدت مبادرات الأزهر على أمرين أساسيين: الحريات الدينية، واعتبرتها «أمّ الحريات»، والمواطنة على أساس المساواة «لكم ما لنا وعليكم ما علينا»، وإسقاط مقولتي الأكثرية والأقلية، وهو ما كرره الإمام نفسه في الخطاب الذي ألقاه في أبوظبي أمام البابا فرنسيس، وأكثر من سبعمئة رجل دين ومفكر يمثلون الأديان والعقائد والثقافات في العالم، شاركوا في مؤتمر الأخوّة الإنسانية بأبوظبي، وبدعوة من مجلس حكماء المسلمين.
أما المرحلة الرابعة متمثلةً في زيارة البابا فرنسيس إلى أبوظبي وإطلاق وثيقة الأخوّة الإنسانية مع الإمام أحمد الطيب، فإنها تفتح صفحة جديدة في العلاقات الإسلامية المسيحية.. فهي تطوي أولاً صفحة التطرف الإرهابي التي أساءت لهذه العلاقات وشوّهت صورة الإسلام لدى أهل العقائد والأديان الأخرى في العالم.
وقام البابا فرنسيس والإمام أحمد الطيب معاً بطيّ تلك الصفحة وفتح صفحة جديدة عنوانها الأخوّة الإنسانية، والمواطنة، والحريات الدينية، والاحترام المشترك، والعمل معاً على صناعة المستقبل الأفضل، وذلك برعاية دولة الإمارات العربية المتحدة. لقد كرسّت هذا الاتفاقَ دولةُ الإمارات وجسّدته في المبادرة التي اتخذتها ببناء مسجد باسم الإمام أحمد الطيب بجوار كنيسة باسم القديس فرنسيس.
لن تكون هذه الكنيسة وهذا المسجد مجرد إضافة إلى عشرات الكنائس ومئات المساجد القائمة أصلاً في دولة الإمارات، وفي أبوظبي على الأخص، بل لها رمزية أدرك العالمُ كلُّه أهميتَها ومعناها.
إن الانتقال من إدانة تدمير الكنائس على أيدي المتطرفين إلى بناء الكنائس على أيدي دولة التسامح، يعني الانتقال في العلاقات الإسلامية المسيحية من التباعد إلى التلاقي من جديد. ويعني إسقاط شعارات التطرف الإلغائية للآخر، ورفع راية احترام التعدد والاختلاف. ويعني إضافة إلى ذلك كله، إعادة بناء الدولة الوطنية على قواعد المساواة بين المواطنين، واحترام الحريات الدينية.
لقد سبق أن التقى البابا فرنسيس مع الإمام الطيب في الأزهر بالقاهرة، وفي الفاتيكان، واتسمت لقاءاتهما بالبعد الروحي وبالرغبة الصادقة في التعاون. لكن لقاءهما في أبوظبي يمتاز بأن له بعداً آخر. وهو مشاركة الدولة في رعاية ومواصلة تنفيذ ما تضمنته وثيقة الأخوة الإنسانية التي وقّعا عليها. وما كان لدولة الإمارات أن تقوم بهذه المبادرة لو لم تكن تؤمن بالتسامح وترفع رايته، ولو لم تكن تمارسه كركن أساسي من أركان سياستها في إدارة شؤون مجتمعها.
قبل لقاء أبوظبي كان الإسلام متَّهماً بتدمير الكنائس ورفض الآخر، وبعد اللقاء أصبح يُنظَر إلى الإسلام كمبادر لبناء الكنائس واحترام الآخر.
ليست هذه النقلة سهلة الاستيعاب.. إنها طبيعة كل البدايات في صناعة التاريخ.

*كاتب لبناني