تراقب الصين فراغاً يتسع في الأمم المتحدة بفضل سياسة «أميركا أولاً» التي يتبعها الرئيس دونالد ترامب. وريبة ترامب في المنظمات الدولية والتحالفات العالمية تعني أن تصبح بكين أكثر حرية في فرض رؤيتها للعولمة على الأمم المتحدة. كما حلت الصين محل اليابان في المرتبة الثانية كأكبر مانح للأمم المتحدة. لكن محللين يرون أن الصين تستغل نفوذها المتزايد لتقويض المواقف الخاصة بحقوق الإنسان ولرعاية قرارات تعكس رؤيتها للعالم ومنعاً لانتقاد سياساتها في الداخل الصيني ذاته.
ويؤكد جاك شيرمان، المسؤول السابق في البعثة الأميركية بالأمم المتحدة والمدير الحالي لمعهد السلام الدولي في نيويورك، أن الصين تفكر في مدى استغلال المنظمة لمصلحتها، بعد أن رأت عدم مبالاة ترامب بالأمم المتحدة. وأحياناً قوبل النهج الدولي للصين بارتياح من جانبٍ كبير من العالم، خاصة مع دفاع بكين عن الاتفاقات البيئية التي تخلت عنها الولايات المتحدة. لكن دبلوماسيين غربيين يتزايد قلقهم من احتمال استغلال الصين قيادتها في تقليص تركيز الأمم المتحدة على حقوق الإنسان والتأكيد على نسختها من الرأسمالية التي تقودها الدولة.
ومع سعي الولايات المتحدة لتقليص مساهماتها المالية في المنظمة الدولية، قامت روسيا والصين العام الماضي بمسعى مشترك أثناء مفاوضات الميزانية، لتقليص المناصب المتعلقة بحقوق الإنسان في بعثات حفظ السلام. صحيح أن مساعيهما عرقلتها القوى الغربية، لكن الدولتين استطاعتا إغلاق وحدة أصغر في مكتب الأمين العام للأمم المتحدة مكلفة بتنسيق مساعي حقوق الإنسان. ويتوقع أن تستهدفا مناصب أخرى لحقوق الإنسان هذا العام، وفقاً لبعض الدبلوماسيين. وأكد لوي شاربونو، مدير شؤون الأمم المتحدة في منظمة هيومن رايتس ووتش، أن مسعى الصين لتقليص مناصب حقوق الإنسان في الأمم المتحدة «نهج منظم وطويل الأمد». والمسؤولون في بعثة الصين في الأمم المتحدة لم يجيبوا على طلب التعليق.
وصرح شي ينهونج، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة رينمين الصينية، بأن «نهج ترامب أحادي الجانب هو ما أثر على النفوذ الأميركي في الأمم المتحدة وليس تقليص التبرعات». ورغم تراجع ترامب، مازالت الولايات المتحدة القوة المهيمنة على الأمم المتحدة والمنظمات العالمية الأخرى. فأميركا تقدم في الوقت الحالي نحو 25% من ميزانية حفظ السلام و22% من الميزانية الاعتيادية. وسيبلغ صافي مساهمات الصين حوالي 335 مليون دولار للميزانية العامة للأمم المتحدة هذا العام، أي نحو نصف المبلغ الذي تقدمه الولايات المتحدة والمقدر بحوالي 674 مليون دولار. وهذه الأرقام لا تتضمن الإنفاق على وكالات الأمم المتحدة الأخرى أو عمليات حفظ السلام. ولا يشغل الدبلوماسيون الصينيون إلا منصبين كبيرين في الأمم المتحدة، مقارنة بأكثر من 20 منصباً يحتلها أميركيون. وما زالت الصين بغير ثقل دبلوماسي وليس لديها شبكة تحالفات تحرك بها الاتفاقات المعقدة، مثل اتفاقات عدم الانتشار والعقوبات الدولية.
وكان يُنظر إلى الصين باعتبارها عضواً صامتاً في مجلس الأمن الدولي، ولم تستخدم حقها في النقض (الفيتو) إلا في مواقف محدودة للغاية. لكن بكين اشتهرت في الآونة الأخيرة باستخدام ثقلها بجرأة أكبر بكثير.
وأشار دبلوماسيون إلى أن الصين لعبت دوراً محورياً في عرقلة بعض جلسات حقوق الإنسان بالاعتماد على تحالفاتها في المناطق النامية، مثل أفريقيا ووسط آسيا، التي أصبحت فيها قوة اقتصادية مهيمنة. وعرقلت الصين، بالتعاون مع روسيا في الآونة الأخيرة، إفادة بشأن سوريا من زيد رعد الحسين مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، رغم أن الصين ليس لها مصالح قومية كبيرة في البلاد التي تمزقها الحرب.
وبعد أن أصبحت الأمم المتحدة عرضة لتقليص الميزانية بشكل متزايد تتطلع الصين أيضاً إلى فرصة لاستخدام مساهماتها كورقة ضغط. ووصف انطونيو جوتيريس، الأمين العام للأمم المتحدة، في كلمة ألقاها مؤخراً، الاستثمارات الاقتصادية الصينية في أفريقيا مثالاً للتعاون الذي يربح فيه الجميع، مستخدماً لغةً دبلوماسية اعتقد المدافعون عن حقوق الإنسان أنها تعطي أولوية للتنمية الاقتصادية على حساب الحريات المدنية. ويعتقد ريتشارد جوان، الباحث البارز في «مركز بحث السياسة» التابع لجامعة الأمم المتحدة، أن مسعى الصين لكسب الآخرين لصفها «رمزي في معظمه الآن، لكنه وسيلة لبناء مشروعية لرؤيتها للعالم».
وأدى نهج الصين إلى رد فعل، خاصة وسط الأوروبيين. فلم تفلح الصين في مسعى عرقلة اعتماد الناشط اليورغوري «دولتون عيسى» في الأمم المتحدة وتم التصدي لمساعيها لتقليص 28 مليون دولار من منظمة تابعة للأمم المتحدة مسؤولة عن جمع الأدلة عن الجرائم التي ارتكبت بحق الروهينجا المسلمين في ميانمار، وفقاً لبيانات هيومن رايتس ووتش. وتحاول الصين التطلع إلى أدوار أكبر في مسعى للحصول على نفوذ أطول أمداً، بما في ذلك قيادة منظمة حفظ السلام التي تعهدت بزيادة مساهمة قواتها فيها.
لكن بريت شيفر، المسؤول البارز في مؤسسة هيرتيج، أشار إلى الاختفاء الغامض لرئيس الانتربول مينج هونجوي العام الماضي، باعتباره دليلاً على قلق أوسع نطاقاً إذا تولت الصين أدواراً قيادية في منظمات دولية.

*صحفي متخصص في الشؤون الدولية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»