يروّج بعض اليساريين ممن ليس لهم معلومات صحيحة ودقيقة حول الموضوع، لفكرة مفادها أن الأزمة السياسية في فنزويلا هي نتيجة «تدخل» أميركي آخر في أميركا اللاتينية. ويشبّه السيناتور بيرني ساندرز (مستقل عن ولاية فيرمونت) ما يجري بالدعم الأميركي للانقلابات في الشيلي وغواتيمالا والبرازيل وجمهورية الدومينيكان. وللتذكير، فإن تغيير هذه الأنظمة وقع في الأعوام 1973 و1954 و1964 و1965، وما يحدث في فنزويلا بعد نصف قرن على ذلك لا يحمل أي وجه شبه مع ذلك. وعلى العكس، فالحركة التي تروم خلع النظام الشعبوي الذي أسّسه هوغو تشافيز يدعمها جيران فنزويلا، الذين كانوا حتى الأمس القريب يحصلون على مساعدة أكبر من أوتاوا منها من واشنطن. وما نراه حالياً في عهد التراجع والتعطل الأميركي هو نموذج لدبلوماسية القرن الحادي والعشرين في أميركا اللاتينية.
والواقع أن قصة فنزويلا منذ 1998 هي جزئياً قصة تلاشي الرغبة الأميركية في إسقاط الأنظمة السامة. فآخر مرة أسقط فيها جنود أميركيون زعيم بلد من أميركا اللاتينية كانت في عام 1989 في بنما. وقد تجنب أربعة رؤساء أميركيين متتاليين، منهم، حتى هذا الشهر، الرئيس دونالد ترامب، مواجهة كاملة مع فنزويلا، حتى في وقت دمر فيه أنصار تشافيز الاقتصاد والنظام السياسي الديمقراطي.
دول أميركا اللاتينية، غير المتعودة على إدارة الأزمات من دون الزعامة الأميركية والمتأثرة بتقاليد عدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان، رفضت أيضاً تحدي تشافيز وخلفه نيكولاس مادورو. هذا بينما انضم البعض ممن يتوقون إلى دولارات النفط التي كان يغدقها تشافيز على حلفائه، إلى ما كانوا يصفونه بالحركة «البوليفارية» أو دعموها.
ثم جاءت كارثة إنسانية غير مسبوقة في التاريخ الحديث للمنطقة؛ متمثلة في النقص الحاد للطعام والأدوية والكهرباء، بل وحتى الماء، ما دفع 10 في المئة من الفنزويليين (أكثر من 3 ملايين شخص) إلى الفرار ومغادرة البلاد. وفجأة، لم تعد «التشافيزية» تبدو حركة جذابة في بوغوتا وبرازيليا. وبعد أن تعرضت لاجتياح من قبل اللاجئين، خلصت كولومبيا والبرازيل إلى جانب البيرو والإكوادور والشيلي وبنما، إلى أنه يتعين فعل شيء ما من أجل وقف الانهيار.
ولحسن الحظ، كانت لديهم وسيلة. ففي أغسطس 2017، شكّلت 11 دولة أميركية لاتينية، ومعهم كندا، «مجموعةَ ليما» للضغط من أجل عودة الديمقراطية إلى فنزويلا. وفي ما يعكس المقاربة الأميركية المتبعة منذ عقود، شجعت إدارة ترامب هذا التحالف، لكنها لم تنضم إليه. وبعد أن نظم مادورو انتخابات مزورة بشكل سافر في مايو الماضي، التأمت المجموعة في الأمم المتحدة في سبتمبر الماضي لبحث خياراتها. ودفعت بنما، مدعومةً بكندا، بفكرة تحويل تنصيب مادورو لولاية جديدة في 10 يناير المنصرم إلى مناسبة للتعبئة وتوحيد الصفوف.
وجاءت نقطة التحول بالنسبة للأزمة الفنزويلية في 4 يناير الماضي، عندما أصدر اجتماع لـ«مجموعة ليما» بياناً حاداً يقول إن أعضاء المجموعة لن يعتبروا ولاية مادورو الجديدة شرعية. وقد أخبرتني بعض المصادر بأن وزارة الخارجية الأميركية فوجئت بالبيان، معتقدةً أن كندا وشركاءها ذهبوا مذهباً متطرفاً في الضغط على كاراكاس.
لكن المعارضة الفنزويلية التي لطالما عانت من الانقسام، كانت قد أصبحت متحفزةً، وأدركت أن لديها فرصةً للفوز بدعم دولي حاسم، فالتفّ أعضاء الجمعية الوطنية في اليوم التالي حول زعيم جديد، هو رئيس الجمعية خوان غوايدو، وتبنوا استراتيجية جديدة: إعلان منصب الرئيس شاغراً حال انقضاء ولاية مادورو السابقة. وطبقاً للدستور الذي أصدره تشافيز نفسه، فإن ذلك يجعل من غوايدو رئيساً بالإنابة.
ولم تنضم إدارة ترامب للركب الإقليمي والاعتراف بغوايدو إلا في الـ23 يناير، أي بعد مرور أكثر من أسبوعين. لكنها فعلت ذلك على نحو خاطئ، إذ بدا أنها تتقدم على «مجموعة ليما»، لتمنح مادورو والمناوئين للإمبريالية في كل مكان سبباً للقول بأن الأمر يتعلق بانقلاب أميركي آخر ليس إلا.
والأكيد أنه خلال الأيام العشرة الماضية تصرفت الإدارة الأميركية بحدة، إذ جمّدت الودائع الفنزويلية، وأوقفت عائدات النفط الأميركية الأساسية بالنسبة للنظام، ورفضت سحب الدبلوماسيين الأميركيين عندما حاول مادورو طردهم.. ومع ذلك فمن المستبعد حتى الآن إرسال الولايات المتحدة جنوداً، مثلما كان يمكن أن تفعل في الماضي.
والواقع أن ثمة احتمالاً معتبراً لأن يرغَم مادورو على التنحي من خلال الدبلوماسية والعقوبات. أما إذا حدث تدخل، فسيكون متعدد الأطراف، وسيأتي بإيعاز من غوايدو وحلفائه الأميركيين اللاتينيين. وبالطبع، فإن هذا لن يحقق الصور النمطية لنزعة التدخل الأميركية المرسومة في أذهان من هم على شاكلة ساندرز، لكنها طريقة جيدة لاشتغال الجزء الغربي من العالم في القرن الحادي والعشرين.

*محلل سياسي أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة واشنطن «بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»