كان البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، يقصد كل حرف عندما قال، عشية زيارته لدولة الإمارات العربية المتحدة، إنه يتطلع إلى كتابة صفحة جديدة في التاريخ خلال هذه الزيارة.
وكان يعرف، نتيجة تجاربه وخبراته الواسعة، أنها ليست زيارة عادية، وأن أهميتها تتجاوز كونها الأولى في منطقة الخليج العربي.
الزيارة بحد ذاتها بالغة الأهمية، ولقاء أكبر قامتين دينيتين في العالم، الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر والبابا فرنسيس، ينطوي على قيمة كبرى، وتوقيت الزيارة واللقاء في بداية العام الذي أعلنته دولة الإمارات عاماً للتسامح، يضاعف هذه القيمة وتلك الأهمية.
لكن تقييم التاريخ للأحداث الكبيرة من هذا النوع يرتبط بما نتج عها في حينها، وبالآثار والتداعيات التي تترتب عليها، لذا سيسجل التاريخ أن اللقاء الذي جمع ممثلي أكبر ديانتين سماويتين في العالم، أسفر عن توقيع وثيقة تنير الطريق، وتُهدي البشر، إلى ما يجمعهم، وثيقة تُعبر عن آلامهم وآمالهم، وتتضمن القيم التي تشتد حاجتهم إليها لمواجهة أخطار محدقة في مرحلة يسودها عدم يقين بشأن المستقبل، لتكون «دليلاً للأجيال المقبلة يأخذهم إلى ثقافة الاحترام المتبادل، في جو من إدراك النعمة الإلهية الكبرى التي جعلت من الخلق جميعاً إخوة»، كما ورد في مقدمتها.
ومن يتأمل محتوى وثيقة «الأخوة الإنسانية»، والأجواء التي أحاطت توقيعها في أبوظبي، يجد أنها تؤسس لصفحة جديدة في التاريخ، وتعيد الأمل في تحقيق هدف منشود منذ فجر البشرية، وهو إعلاء شأن المشتركات الإنسانية، وقبول الاختلاف واحترامه، والتعايش بين الجميع.
ويذَّكر تعبير «الأخوة الإنسانية»، الذي يجمع قيم الخير والمحبة والسلام، بكلمة ‏Fraternite التي وُردت في شعار الثورة الفرنسية عام 1789، وتُرجمت إلى الإخاء.ويدل محتوى وثيقة «الأخوة الإنسانية» على أنها أكثر شمولاً من «وثيقة الحقوق» الصادرة عقب تلك الثورة تحت عنوان (Liberte-Egalite-Fraternite) أي الحرية والمساواة والإخاء.وثيقة «الأخوة الإنسانية» أكثر شمولاً من حيث أنها تُهدي إلى ما يُصلح العلاقات الدولية، ويُحقق التسامح والتعايش والاستقرار داخل الدول في آن معاً، كما أن القيم التي تتضمنها وثيقة «الأخوة الإنسانية»، أشمل وأوسع نطاقاً من تلك التي وُردت في «وثيقة الحقوق»، ووثائق أخرى تُدرج في الإطار نفسه. وقد نصت وثيقة «الأخوة الإنسانية» على اعتماد كل ما سبقها من وثائق عالمية في هذا الإطار، فقد ربطت هذه الوثيقة بين قيمتي الحرية والمساواة، وأضافت إليهما قيمة العدل.
فالحرية في هذه الوثيقة حق لكل إنسان، اعتقاداً وفكراً وتعبيراً وممارسة، على أساس أن التعددية والاختلاف في الدين واللون والجنس والعرق واللغة حكمة لمشيئة إلهية، خلق الله البشر عليها، وجعلها أصلاً ثابتاً تتفرع عنه حقوق حرية الاعتقاد، وحرية الاختلاف، وتجريم إكراه الناس على معتقد بعينه.
والمساواة، فيها، ليست مجرد نص يكتب في الدساتير والقوانين، بل حقيقة منشودة ينبغي العمل من أجلها، بحيث تكون هذه المساواة في الواجبات والحقوق سبيلاً لأن ينعم الجميع بالعدل، في ظلال مواطنة كاملة تحفظ حقوق المواطنين الدينية والمدنية، وتمنع أي نوع من التمييز.
ولا يتحقق هذا إلا اعتماداً على نشر ثقافة التسامح والحوار والتفاهم والتعايش وقبول الآخر، والعمل على ترسيخ الحقوق الإنسانية العامة المشتركة لضمان حياة كريمة لجميع البشر في الشرق والغرب، بعيداً عن الكيل بمكيالين.
وبخلاف الانطباع الذي قد ينتج عن أن الوثيقة أُصدرت بتوقيع قامتين دينيتين كبيرتين، فهي وثيقة للبشر جميعهم، وليس للمسلمين والكاثوليك فقط، أو للمتدينين عموماً فحسب.
ومن الطبيعي أن تكون فيها إشارات إلى المؤمنين في مواضع عدة.
لكن الاتجاه الإنساني العام واضح في إطلاق الوثيقة «باسم كل الأشخاص ذوي الإرادة الصالحة، في كل بقاع المسكونة»، وفي توجهها إلى «المفكرين والفلاسفة ورجال الدين والفنانين والإعلاميين والمبدعين في كل مكان ليعيدوا اكتشاف قيم السلام والعدل والخير والجمال والعيش المشترك، وليؤكدوا أهميتها كطوق نجاة للجميع، وليسعوا في نشر هذه القيم بين الناس في كل مكان»، وفي ختامها الذي تضمن «دعوة للمصالحة والتآخي بين جميع المؤمنين بالأديان، بل بين المؤمنين وغير المؤمنين»، و«نداء لكل ضمير حي ينبذ العنف البغيض والتطرف الأعمى، ولكل محب لمبادئ التسامح والإخاء..». وهذا ما يجعلها صفحة جديدة للتاريخ تؤسس لمرحلة يؤمل أن تكون أفضل وأرقى في تطور العالم.