شهدت القرون الأولى من الخلافة تنامي التسامح، وذلك منذ بعثة الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، وحتى قيام الإمبراطوريات الأموية والعباسية، حيث تميزت هذه الفترات بنمو روح التسامح تجاه غير المسلمين، واتخذت منحى تصاعدياً، حتى إن المسيحيين واليهود كانوا يُشكلون مع المسلمين مجتمعاً واحداً، تشهد كثيرٌ من الوثائق على ثراء المبادلات الفكرية والثقافية بين مجموعاته الثلاث.
إلا بعض الفترات التي كانت استثنائية، مثل بداية حكم الموحدين في الأندلس الذين اتبعوا حركة دينية متشددة، وكانوا يدعون إلى تنقية العقيدة من الشوائب ومحاربة كل مخالف في الرأي والدين.
ولذلك قامت هذه الحركة بهدم الكنائس والمعابد اليهودية التي كانت رمزاً للتعايش والتسامح بين العقائد السماوية الثلاث.
وبسبب ظهور هذه الحركة التي استولت على الحكم، هاجر الكثير من علماء المسيحيين واليهود، ومن بينهم موسى ابن ميمون الذي ولد بقرطبة لعام 30 مارس1135.
فقد غادر هو وعائلته من إسبانيا إلى مدينة فاس، فلاحقهم التشدد إلا أنهم تظاهروا بالإسلام خشية النفي.
فأقاموا تسع سنوات متنقلين بين المغرب العربي الكبير، ولكن بسبب المبالغة في التشدد والتعدي على أحد كبار أحبار اليهود في مراكش، قرر موسى ابن ميمون الرحيل إلى مصر.
ونتيجة للترحيب الذي لاقاه من سلاطين الأيوبيين والاستقرار السياسي نسبياً آنذاك، استأنف الكتابة والتأليف، وأصبح من أعظم أطباء اليهود في زمانه، فاختير كطبيب خاص لنور الدين ابن صلاح الدين الأيوبي، ثم بعد ذلك عيّنه صلاح الدين الأيوبي رئيساً للطائفة اليهودية لحماية يهود مصر.
مكث موسى بن ميمون في مصر حتى وفاته، وامتهن الطب بعدما حصل على شهرة في ذلك المجال.
موسى ابن ميمون عاش بين المسلمين، وتتلمذ على أيديهم، حيث تلقَّى العلم على يد ثلاثةٍ من علماء مسلمين، وهم: ابن الأفلح، وابن الصائغ، وابن رشد، حين عكف على دراسة مؤلفات ابن رشد طيلة 13 سنة.
ويظهر هذا التأثر بأفكار فلاسفة الإسلام، في كتابه «دلالة الحائرين»، وهو أحد أهم كُتب ابن ميمون.
فالكتاب عرض لأصول التوراة من خلال دراسة فلسفية.
وتجدر الإشارة إلى أن ابن ميمون ألّف معظم كتبه في القاهرة في عهد صلاح الدين الأيوبي، حيث كان العصر الذهبي له.
ومن هذه المؤلفات عشرة كتب في الطب نقل فيها آراء الفلاسفة الغربيين والإسلاميين أمثال أبقراط، وجالينوس، وديسقوريدس، والرازي، وابن رشد.
وقد علق الكثير من المؤرخين المسلمين بأنه يصعب التفريق بين ما كتبه الحاخام موسى بن ميمون، وما يكتبه أي رجل دين مسلم دارس للثقافة الإسلامية.
وتأثر ابن ميمون بالعقيدة الإسلامية.
وأنه في مناقشاته لنصوص التوراة، ينطلق عن فكرٍ وثقافةٍ إسلامية، وعندما ينتقد علماء المسلمين يكون نقدُه لهم بأسلوبٍ بعيد عن التشدد.
وقال فيه اليهود «بين موسى وموسى، لم يظهر موسى» أي ما بين زمن النبي موسى عليه السلام وزمن موسى ابن ميمون لم يخرج رجل بعظمتهم.
الإسلام دين يحث على التسامح ومحبة الآخر حتى لو كان مخالفاً لمعتقداتنا، وما رُوي عن النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه كان مع أصحابه، فمرّت بهم جنازةٌ، فقام النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- لها، فقال له أحد الصحابة متعجّباً: إنّها جنازة يهوديّ، فردّ عليه النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- بقوله: (أليسَتْ نفساً) فإنّ للنفس الإنسانيّة حُرمةً عظيمةً لا يجور قتل أهل الكتاب أو ظلمهم إذا كانوا متعايشين بين المسلمين.