بينما تحاول إدارة ترامب بجدية التوصل إلى اتفاق مع حركة «طالبان»، تجد نيودلهي نفسها في وضع صعب، فقد دأبت الهند على رفض عقد أو تأييد أي حوار مع الحركة، وأصرت على موقفها الصارم بأنه «ليست هناك طالبان طيبة وأخرى شريرة». وكانت الحكومات الأفغانية المتعاقبة تؤيد الرواية الهندية، وكان ذلك أيضاً موقف الغرب بقيادة الولايات المتحدة. وقد بدأ نفوذ الهند يتزايد في تلك الدولة التي تمزقها الحرب بوتيرة أسرع بعد الغزو الأميركي وتنصيب حامد كرزاي كرئيس لأفغانستان. وشجعت الرؤى المتطابقة بشأن الحركة بين كرزاي ومن بعده أشرف غني ونيودلهي، قيادة البلدين على تعزيز العلاقات بينهما. وبدأت الهند استخدام قوتها الناعمة من خلال الأنشطة الثقافية وتنفيذ مشروعات مدنية بقيمة مليارات الدولارات لإعادة بناء البنية التحتية المدمرة في أفغانستان، وعينها على تعزيز نفوذها بهدف زيادة شعبيتها بين الأفغان، ومن ثم تحجيم باكستان.
وفي الوقت ذاته، استهلت الهند تعاوناً أمنياً محدوداً مع أفغانستان، فقدمت لها طائرات هليكوبتر ورادارات. وتشارك راهناً في تطوير ميناء «شاباهار» لتفتح طريقاً جديداً أمام كابول كبديل لها عن المرور عبر باكستان، التي تشعر هي الأخرى بقلق بالغ من التدخل الهندي في أفغانستان.
ومن وراء هذه الروابط القوية، تهدف الهند إلى منع «طالبان» حتى من لعب دور محدود في الشؤون الأفغانية لأن غالبية أعضاء الحركة منتمون إلى عرقية «البشتون». ويهيمن «البشتون» على الإقليم الحدودي شمال غرب باكستان. ولهذا السبب لطالما تمتعت إسلام آباد بنفوذ قوي في أفغانستان وتعتبرها عمقها الاستراتيجي.
وبناء على ذلك، من أجل تحجيم نفوذ إسلام آباد في أفغانستان، ضمت نيودلهي جهودها إلى جهود الحكومة الأفغانية في موقفها الثابت من أن أية عملية سلام في الدولة لابد أن تكون بقيادة الحكومة في كابول، ومن دون أي دور لـ«طالبان». وكانت الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى قد أيدت موقفها منذ وقت طويل. لكن ذلك القرار المفاجئ من قبل إدارة ترامب بعقد محادثات مع «طالبان» والخروج من الورطة الأفغانية مع الحفاظ على ماء الوجه، بعد خسارة آلاف الجنود، ومئات المليارات من الدولارات، أدهش الحكومتين الهندية والأفغانية.
وإطلاق سراح الملا عبدالغني بارادار، أحد مؤسسي حركة «طالبان» في أفغانستان قبل ثلاثة أشهر من أحد السجون الباكستانية، كان دلالة واضحة على أن الولايات المتحدة ودولاً غربية أخرى أذعنت في نهاية المطاف إلى الرواية الباكستانية بأن «طالبان» هي القوة الأقوى في الميدان، وأنه لا يمكن تحقيق السلام من دون إشراكها وإجراء محادثات مباشرة معها. والملا «بارادار» نفسه هو من يلعب الآن دوراً محورياً في التفاوض نيابة عن الحركة الأفغانية. وقد أقرّ مساعد الأمين العام لحلف شمال الأطلسي «الناتو» للشؤون السياسية والسياسيات الأمنية «أليخاندرو ألفارجونزاليز» بأن باكستان تلعب الدور الأهم في المحادثات.
واتفقت «طالبان» والولايات المتحدة على مسودّة إطار عمل السلام بعد جولات متعددة من المحادثات. ويبدو أن واشنطن وافقت على سحب قواتها في غضون 18 شهراً في مقابل وعد من «طالبان» بأنها لن تسمح لتنظيمي «القاعدة» أو «داعش» الإرهابيين بالعمل انطلاقاً من الأراضي الأفغانية. وتؤكد التقارير أن كبير المفاوضين الأميركيين «زلماي خليل زاد» وقادة «طالبان» اتفقوا من حيث المبدأ على إطار عمل يرتكز على كثير من تلك النقاط، ومن ثم، أضحى دور «طالبان» في إحلال السلام داخل أفغانستان معترفاً به حالياً، وهو واقع على جميع الدول التي تتعامل مع كابول إدراكه.
وليس ثمة شك في أن ذلك أصبح وضعاً صعباً بالنسبة لنيودلهي. فمع تقدم محادثات السلام، يبدو من الواضح أن على الهند أن تحدد سياساتها تجاه أفغانستان، أو أنها ستواجه إقصاء من التطورات الجديدة التي تجري. ولا تزال الحكومة الهندية تؤيد إجراء الانتخابات الرئاسية المقبلة، وتقول إنها لابد أن تُعقد كما هو مخطط لها في خضم حالة انعدام اليقين بشأنها نتيجة محادثات الولايات المتحدة و«طالبان».
وحتى الآن، أنكرت الحكومة الهندية حدوث أي تحول في موقفها، وأصرت على أنها لن تكون جزءاً من عملية السلام طالما لا «يقودها الأفغان ويمتلكونها ويسيطرون عليها». غير أن الوضع في أفغانستان معقد بسبب حرص «طالبان» على انسحاب القوات الأميركية، ورغبتها في لعب دور مركزي في الدولة. وتراقب حكومة أشرف غني بقلق بالغ المفاوضات بين واشنطن وطالبان، وإلى أين ستقود أفغانستان.
وعلى رغم من ذلك، تختبر الهند الأجواء بوضوح في خضم حالة انعدام اليقين التي تتجه إليها أفغانستان. ولا ريب في أن نيودلهي لا خيار أمامها الآن سوى التخلي عن موقفها المعلن بشأن عدم وجود «طالبان طيبة وأخرى شريرة». فقد استثمرت الكثير بالفعل في أفغانستان خلال السنوات الماضية، وإذا رغبت في البقاء لاعباً مهماًّ هناك، فعليها تبني سياسة مرنة بشأن «طالبان» وتعديل سياساتها وفقاً للوضع الناشئ. وسياسة عدم التحدث أو الجلوس مع «طالبان» ستكون بمثابة تجاهل واضح للواقع!
*رئيس مركز الدراسات الإسلامية- نيودلهي