نسلط الضوء، بمناسبة زيارة البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية إلى أبوظبي، على تجربة مِن القرون الخوالي، جرت بين المسيحية ممثلةً بالبطريك «طيمثاوس» والإسلام ممثلاً بالخليفة المهدي، وهي لم تكن الأولى ولا الأخيرة، فلو كانت الأخيرة ما ظلت الخلافة الإسلامية تضم غير المسلمين، وفي مقدمتهم المسيحية، لكن هذا لا يجعلنا نغض النظر عن تعصب خلفاء وفقهاء، في أزمنة مختلفة، لأسباب عدة، ولو كان ذلك غير كائن ما احتجنا إلى عبارات مِن مثل «إحياء الحوار الديني»، أو التثقيف بالتَّسامح بين أتباع الأديان، إنه التَّاريخ ليس كله ظلم ولا كله عدل.
يُعد البطريرك طيمثاوس الأول (823 ميلادية)، والمعروف بالكبير، بابا زمانه لمسيحيي الشَّرق كافة، والرتبة الدينية الكبرى كان تعُرف بـ«الجاثليق»، وخلال رئاسته للكنيسة نقل كرسي البطريركية مِن المدائن إلى بغداد، ليكون قريباً من الخلافة، بعد اتخاذ بغداد عاصمةً (بعد145هـ). كانت لهذا البطريرك علاقة مميزة مع الخليفة المهدي، وكتب مشدداً على استنفاد كل إمكانية ومجال للتَّعايش مع المسلمين: «إنهم لم يُكرِهوننا قط على عمل شيء يمس الدين»(طيمثاوس الكبير رائد الحوار المسيحي الإسلامي، مجلة بين النهرين). عاصر البطريرك طيمثاوس خمسة خلفاء عباسيين، وهو على رأس الكنيسة: المهدي(169هـ)، والهادي(170هـ) والرَّشيد(193هـ) والأمين(198هـ) والمأمون(218هـ). كانت فترة رئاسته لكنيسة الشَّرق مثمرة في العلاقة بين المسيحيين والمسلمين، وقد اشتهرت حواراته العقائدية مع الخليفة المهدي وعلماء المسلمين، وكان يُجيب بكل يُسر لمنزلته في دار الخلافة.
جرى الحوار عن الثَّالوث المقدس، لما سأله المهدي: «أتؤمن بالأب والابن والروح القدس»؟ أجاب قائلاً: «أيها الملك، إن الاعتقاد بهذه الأسماء الثَّلاثة هو اعتقاد بثلاثة أقانيم، أعني الأب والابن والرُّوح القدس، الذين هم: إله وطبيعة واحدة وجوهر واحد. كذا نؤمن ونعتقد، على ما علّمنا صريحا عيسى عليه السلام، وتعلمنا ذلك أيضاً من الأنبياء. ولنا برهان على ذلك في المخلوقات. فكما أن ملكنا (يقصد الخليفة المهدي) محب الله هو واحد مع كلمته وروحه وليس بثلاثة ملوك، ولا يمكن أن ينفصل منه كلمته وروحه، ولا يسمى ملكاً دون الكلمة والروح. هكذا الله تعالى أنه واحد مع كلمته وروحه وليس بثلاثة آلهة، إذ لا يمكن أن ينفصل منه الكلمة والرُّوح. كذا الشمس مع أشعتها وحرارتها هي واحدة وليست بثلاث شموس»(المصدر نفسه).
رد الخليفة قائلاً: «بل ينفصل الكلمة والرُّوح من الله»! فأجاب الجاثليق: «حاشا وكلا. فكما أن الأشعة والحرارة لا تنفصلان مِن الشَّمس قطعا هكذا كلمة الله وروحه لا ينفصلان منه أبداً. وكما أنه إذا انفصلت أشعة الشَّمس وحرارتها منها يزول نورها وحرارتها، ولا يمكن أن تدعى شمساً، فإن تجاسر أحد وقال عن الله إنه كان موجوداً في زمانٍ ما دون الكلمة والروح فقد جدّف (كفر)، لأن الله سبحانه منذ الأزل كان له الكلمة مولوداً، كينبوع النطق، وكان ينبثق منه الروح سرمديا كينبوع الحياة» (نفسه). هذا، تستهل الكنائس شرقاً وغرباً، ومنذ ظهور أول كنيسة بالمدائن مِن العراق، قداسها ومناسباتها بعبارة موحدة تقول: «باسم الأب والابن والرُّوح القدس، الإله الواحد آمين».
في تلك الفترة كان تدخل الخيزران وأم الهادي والرَّشيد، لمصلحة المسيحيين، فأخرجت لهم موافقة الخليفة بانتخاب «جاثليق» جديد هو «طيمثاوس الأول» المذكور، وسط خلافات على رئاسة الكنيسة، لكن الكنيسة في عهد هذا البطريك تقدمت كثيراً، فكان يجمع بين العلم والدِّين، ونالت في زمنه تقدير خلفاء عصره العباسيين، ولمات توفي ووري الثرى في دير الجاثليق بالكرخ.
بعدها لعبت السَّيدة زبيدة بنت جعفر بن المنصور وزوجة الرَّشيد ووالدة الأمين، دوراً إيجابياً لصالح المسيحيين بتأثير «طيمثاوس» نفسه، لذا وصفتها المصادر المسيحية بـ«المحسنة الكبيرة»، وإحسان زبيدة لم يقتصر على المسيحيين فهي صاحبة أعمار طريق الحج، وتزويده بالماء والحراسة والاستراحة، وآثاره مازالت قائمة، وعُرف تاريخياً باسمها «درب زبيدة»(الرَّاشد، درب زبيدة في عصر الدَّولة العباسية).
ليس الحوار والتقارب بين الدِّيانتين كان مختصراً على رئاسات الأديان وملوك الدُّول، إنما للأدب حصة بليغة فيه، وللأسف سترها التّشدد والعناد، ولنَّا تسميته بـ«التُّراث المحجوب»، وقد آن الأوان لإطلاقه في عام «التَّسامح». فهذا الأعشى الكبير(629 ميلادية) كان صادحاً في العلاقة بين العرب والمسيحية، ذاكراً فضل مكة، وقد صارت قبلة المسلمين: «حلفتُ بثوبي راهبِ الدَّير والتي/بناها قُصيٌ وابن جرهم»(ابن سيد النَّاس، عيون الأثر في فنون المغازي والشَّمائل والسّير).
أما خلال التقارب قبل عقود، فنأتي بمثل محمد مهدي الجواهري، الذي عبر عنه بالعناق، ولا أظنه يكون بمأمن لو قالها في ظل هيمنة التَّطرف الدِّيني والمذهبي: «أرض العراق سعت لها لبنانُ/فتعانق الإنجيل والقرآنُ». مثل يُشدد الشاعر نفسه على أن اللقاء بين أهل الأديان لا يحرمه دين، حين قال: «وقد خبروني أنَّ في الشَّرقِ وحدةً/كنائسهُ تدعو فتبكي الجوامعُ»(الدِّيوان)، إنه ليس مجرد شعر إنما تاريخ ضارب في القِدم.