في «البرود» بإقليم السر بنجد، وسط السعودية، ولد علامة الجزيرة العربية، حمد بن محمد الجاسر (1910-2000). استقبلته طفولة صعبة. ولد في إقليم كل أهله يمتهنون الفلاحة، وكان الأبناء ينطلقون منذ الصغر بين النخيل والسواقي والحقول، يساعدون أهليهم على الكد. جسده النحيل قاده نحو التعلّم، إذ لم ير والده إمكانية الإفادة منه بالفلاحة. لم يستطع الطفل المشي على قدميه إلا بعد سن الرابعة، بل إن اليأس من سلامته وشفائه جعل أقاربه يحفرون له ثلاثة قبور استعداداً لرحيله.
كان الانتقال إلى الرياض عام 1922. اهتم بالقرآن وعلوم الشريعة حتى تمكّن وبرع، ليتخرج من قسم القضاء الشرعي عام 1934. درّس وعمل بالقضاء ما بين ينبع وضبا، ولكنه اتجه إلى مصر للدراسة، ويروي أن سبب عودته منها بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية، ما اضطره للرجوع إلى بلاده.
بعد العودة، اختمرت في ذهن العلامة الجاسر فكرة، بدا لأول وهلة أنها مجنونة، إنه التوجه نحو الصحافة، أصدر لأول مرة صحيفة «اليمامة» عام 1952، وبدلاً من الاستسلام لفكرة طباعة الجريدة خارج السعودية، رأى التوجه نحو فكرةٍ أكثر مغامرة، وهي تأسيس مطبعة في الرياض، وهكذا كان بعد تأسيس الجريدة بسنتين.
في الحوارات التي أجريت معه من قبل الأساتذة د.عبدالرحمن الشبيلي، والأستاذ محمد رضا نصر الله والأستاذ حمد القاضي، يستعيد «الجاسر» ذكرياته بدقةٍ متناهية، وفي كتابه «السوانح» رحلة ساحرة ماتعة، شكل الجاسر نقطة انطلاقٍ للمجتمع من ضفةٍ إلى أخرى، وكان ذا عنفوان شديد ومعاند في سبيل تحقيق أهدافه، ومن ذلك إلحاحه وإصراره لإتمام مسيرة الصحافة في السعودية أسوةً بالغليان الإعلامي الذي بهر العلّامة بما يتابعه من نتاج لبنان ومصر.
بنى «الجاسر» إنتاجه على نمطين: الأول المؤلفات: فقد كتب بغزارةٍ عن السعودية وجغرافيتها كما في «المعجم الجغرافي»، وله من المعاجم واحد عن قبائل السعوديين، ومعجم عن الخيل، وكتاب «الرحلات في البحث عن التراث»، هذه الكتب، وغيرها، عبارة عن مشاريع متخصصة. والنمط الآخر: الأبحاث المعمقة التي كان ينشرها في الصحف العربية، ومنها مجلة «العرب» التي أسسها واهتم بها، وأعدادُها مليئة بالبحوث الثرية، كما اشتهر «الجاسر» بالتحقيق للكتب والأبحاث، وترك للمكتبة العربية كنوزاً مضيئة، يقول- وهو يتجوّل في مكتبته ويقلب المجلدات التي مضغت من سنين عمره، وأكلت من سواد شعره-: إن هذه المشاريع التي يتركها هو ومن هم في جيله خطة طريق أولى، أو نواة أساسية، أو لبنة مبدئية للأجيال اللاحقة من الباحثين الراغبين بالاستزادة في البحث والإدمان على المطالعة والتحقيق بالمسائل والمواقع والمخطوطات.
جمع العلامة «الجاسر» بين العلوم، ما جعل كتاباته موسوعية، بينما يتحدث عن موقع يباغتك بقصة، أو يطربك ببيتٍ شعري، وربما شرح لك نوع نباتٍ، أو خاصية نخلة، أو منحك الفرصة للتجول معه في خياله الخصب حول رأيه في حادثة، أو وصوله إلى نتيجة مؤكدة للتحقق من اسم موقع.
أخذ من الأدب العربي نخبة عبارات عرف بها قاموسه في الحديث والكتابة، فهو فصيح وبليغ، معلومته حاضرة، واستنتاجه سريع.
وفي لمحةٍ حول المكتبات، يرى الجاسر أن الإكثار من جمع الكتب خطأ محض، بل يجب على الباحث اقتناء ما يحتاجه من الكتب، وذلك على ضربين، إما كتاب ستقرأه، أو آخر سترجع إليه في بحثك، أما الاقتناء الأعمى للكتب من دون دليل أو منهج، إنما يكدسها من دون الاضطرار إلى الرجوع إليها، وهذا فيه امتهان للكتاب.
ورغم ضياع مخطوطاتٍ وكتاباتٍ ثمينة لـ «الجاسر» في لبنان الذي أقام فيه مضطراً بعد مصادرة صحيفة «اليمامة»، إلا أنه استطاع تجاوز التحدي المرير هذا، والذي يأتي ضمن تحدياتٍ أخرى جمة، منها فقدانه لابنه محمد في حادث طائرة، وكان فقداً موجعاً له، ولكن بقي صامداً حتى آخر يوم من حياته، وجعل تاريخه وقصة حياته مثالاً باهراً لكل الأجيال. وإذا كانت النفوس كبارا ** تعبت في مرادها الأجسامُ.
*كاتب وإعلامي سعودي